بقلم إمانويل فرودينتال
.
إحتدم غضب حكومة الكاميرون بعد التحقيق في “الرحلات الخاصة” الممتدة للرئيس بول بيا بعيدا عن بلده. إليكم كيف تعاون ثلاثة صحفيين عبر القارات لحساب أيامه في الخارج وبناء قصتهم.
كان الأمر واضحاً. كانت الرحلات الخارجية العديدة للرئيس بول بيا قد أغضبت العديد من الكاميرونيين، خاصة بسبب إغلاق الشوارع الذي يُرافق عودته الأمر الذي قد يُوقف حركة المرور لساعات في العاصمة ياوندي. أزداد إنزعاجهم في أكتوبر ۲۰۱۷م عندما كان بيا بعيداً في سويسرا بينما تُقمع الإحتجاجات بقسوة في غرب البلاد. وحتى ذلك الحين، لم يكن أي شخص قد حسب المدة الكاملة لغياب بيا عن البلد الذي حكمه منذ عام ۱۹۸۲.
لقد عرضت الفكرة على مشروع الإبلاغ عن الفساد والجريمة المنظمة (OCCRP) الذي شارك على الفور بالميزانية، وأخيرًا قام بنشر تحقيقنا في ۱۸ فبراير. وقد أظهر التحقيق أنه مُنذ تولي بيا البالغ من العمر۸٥ عامًا السلطة، كان قد أمضى ما لا يقل عن أربع سنوات ونصف في “زيارات خاصة قصيرة” في الخارج. ولا تشمل هذه المُدة الرحلات الرسمية، والتي تُزيد عن
تلك المُدة ما يصل إلى سنة إضافية. وجدنا أنه في بعض السنوات، مثل ۲۰۰٦ و ۲۰۰۹ قضى بيا ثُلث السنة خارج البلاد.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لتُثير القصة إهتماما لدى عدد غير قليل من وسائل الإعلام الدولية، حيث يسأل النشطاء والصحفيون الأمم المتحدة وحكومة الكاميرون عن عادات سفر بيا. ولم تكن سلطات الكاميرون سريعة في الرد، ولكن عندما فعلوا ذلك، كان الجميع يرد (كل أفراد الحكومة يقومون بالرد)
المُعارضة
في ۲۸ فبراير، نشرت صحيفة الكاميرون تريبيون المملوكة للحكومة عنوان “عودة المُشهرّين” علي صفحتها الأولى، و خصصت خمسة مقالات ومقابلة واحدة تدور حول تحقيقنا، بعناوين مثل “طريقة غامضة، تحقيقات مشكوك فيها” أو “دعاية إنتخابية واضحة”.
وفي إحدى المقالات، نُقل عن الناطق بإسم الحكومة عيسى تشيروما بكاري قوله “إننا نتعامل مع مكتب حقيقي لزعزعة الإستقرار، يتم تمويله من قبل الحركات الإنفصالية والإهتمامات الخفية التي لا تحلم إلا بإحداث الفوضى في بلادنا”.
لقد تحققنا من النتائج التي توصلنا إليها من خلال معلومات من تنبيه مطار ﭼِنيف (GVA Alert)، وهي عبارة عن بوت على تويتر يسجل دخول وخروج الديكتاتوريين عبر مطار ﭼِنيف.
في نفس اليوم، سُئل جاك فيم ندونغو، وزير التعليم العالي في الكاميرون والعضو الرفيع المستوى في حزب بيا، على الراديو الفرنسي المُؤثر (RFI ) عن هذه القضية وأوضح أنه : “حتى عندما يكون بيا في الخارج … فإنه يحكم الكاميرون بطريقة جميلة … (بمساعدة تكنولوجيا الاتصالات) فمن الممكن أن تُدير أي مُنظمة من أي مكان. أنا أنفي رسمياً هذه الإدعاءات المروعة بأن الرئيس بيا يقضي معظم وقته خارج البلاد. فهو موجود بإستمرار في الكاميرون. “
على الأرجح انه يقع تحت الضغط لتبرير نفسه أمام السلطات، كتب الناشر لجريدة الكاميرون تريبيون، ومجتمع الكاميرون للصحافة والإصدارات (SOPECAM)، خطاباً مفتوحاً مدعياً أن ” كشفنا الكاذب” لم يأت من أرشيفاتهم، والتي أكد فيها صعوبة الوصول إلى المحفوظات التي لم تتوفر بعد عبر الإنترنت.لقد كانوا على حق. في حين استخدمنا حوالي ٤۰۰۰ نسخة من الكاميرون تريبيون لتوثيق معلوماتنا، لم نستخدم أرشيف الصحيفة الخاص، لأننا نعلم تمامًا أن ذلك لم يكن ممكنًا بسبب ميولهم السياسية.
في ۱ مارس، البث الإخباري في وقت الذروة لمحطة الكاميرون للراديو والتلفزيون التي تديرها الحكومة دعا مزاعمنا “بالسامة” و”حملة التشهير”. ثم زعموا أنه بما أننا لم نتمكن من الوصول إلى الصحف عبر مجتمع الكاميرون للصحافة والإصدارات (SOPECAM )، لذا لم يكن واضحًا كيف حصلنا عليها وبالتالي تحقيقنا غير موثوق. وزعموا أيضا أن توقيت المنشور يتزامن مع الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية في الكاميرون، والمقرر عقدها في أكتوبر.
في إحدى مقالات الكاميرون تريبيون التي تلقي بظلال الشك على منهجيتنا، تساءل الصحفي إﻴﭫ أتانجا عما إذا كانت “محاولة لتقدير تكلفة هذه السفريات هي عملية مبهمة قد تستحق جائزة عالمية كبيرة في الصحافة الاستقصائية، أو نوبل في الرياضيات لما تم تطبيقه على سفريات الرئيس”.
نحن لا نختلف مع هذا الرأي.
ومع ذلك، وبالنظر إلى طبيعة هذه الإستجابات، فإننا نشعر بأننا مجبرون على الرد عليها- وأن نوضح للقراء كيف جمعنا البيانات من أجل قصتنا.
فتح الأرشيفات
إنضم لي في هذا المشروع المدونين غيل تازت وفرانك ويليام باتشو. وقد عرفت أنهم سيكونون أفضل الشركاء لأنهم نشروا تحليلاً لجميع وزراء بيا منذ عام ۱۹۸۲، إلى جانب سنهم وخلفيتهم.
كنا نعلم أن جريدة الحكومة، الكاميرون تريبيون، تُخصص مقالاً يغطي واحدة من رحلات بيا، وتشيد بإنجازاته، لذا كانت البيانات مُتاحة للجميع.
كنا نظن أن ذلك أمراً سهلاً. سنجمع جميع الصحف، ثم ندخل البيانات وننشر النتائج.
استخدم الصحفيون الإستقصائيون حوالي ٤۰۰۰ نسخة من الكاميرون تريبيون للحصول على معلومات، لكنهم لم يستخدموا أرشيف الصحيفة نفسها بسبب ميولهم السياسية.
كان ذلك خطأ. على الرغم من ما يُقال أن الكاميرون تريبيون هي الصحيفة الأكثر انتشارًا في البلاد، والمملوكة للحكومة، إلا أنه من الصعب الحصول على أرشيفها. في حين أن النشر بدأ في عام ۱۹۷٤، إلا أن الأرشيف الخاص بها يعود فقط لسنوات قليلة. كانت النسخ الأرشيفية مكلفة للغاية للحصول عليها، وكان من غير المحتمل أن يكون مجتمع الكاميرون للصحافة والإصدارات ( SOPECAM ) حريصاً على منحنا خصمًا لو علم بأهدافنا.
هكذا انتهى فرانك في حافلة إلى بويا عاصمة منطقة جنوب غرب البلاد، وتحت سفح جبل الكاميرون العظيم. تشتهر المدينة بسباقها المرعب حيث يتنافس المتنافسون على الجبل المنحدر بسرعات تسبب الدوار. كانت حقيقة غير معروفة، ولكن الأكثر فائدة لنا، هو أن مبنى صغير عند سفح الجبل يحوي أرشيفات حكومية يعود تاريخها إلى أوائل القرن العشرين. تم الحفاظ عليها بشكل جيد إلى حد ما، على الرغم من تحلل الوثائق القديمة ببطء في الهواء الرطب في المدينة.
قام بعدة رحلات إلى بويا، في بعض الأحيان كان كمن يتصارع مع مسؤولي الأرشيف للوصول إلى الوثائق. قدمت لنا جهوده حوالي ٣٩۰ ورقة، أساساً من عام ۱٩۸٣- عام ۱٩٩۱ وعام ۲۰۰۲ – عام ۲۰۰٩م.
لكن هذا لم يكن كافياً لمشروعنا. كُنا بحاجة إلى المزيد من البيانات.
إستكشفت الإنترنت لمعرفة أين يُمكننا العثور على نسخ من الكاميرون تريبيون. لحسن الحظ، وجدت البعض في مكتبتين: في باريس وبوسطن.
تتكون المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس من أربعة مبان شاهقة تطل على نهر السين. وقد قُصِد من الأبراج التي تتخذ شكل زاوية تذكيرالشخص بالكتب المفتوحة ولكنها تُشعرك أكثر أنها تُشبه كتل المكاتب المُرعبة. لم نأخذ في الاعتبار مظهرهم، حيث كانوا يحتفظون بمجموعة لا تقدر بثمن من العديد من صحف الكاميرون تريبيون من عام ۱۹۷٤ إلى عام ۱٩۹٦ ومن عام ۲۰۰۲ إلى عام ۲۰۱۰ رغم وجود عدد من الثغرات. ومع ذلك، سنقطع شوطا طويلا نحو تحقيق هدفنا.
كان عليّ فقط العثور على ضحية قليلة الريبة لقضاء أيام في هذا المكان المظلم، والإطلاع على مئات من أغلفة الجريدة. لحسن الحظ، لقد نشأت في باريس، وهكذا تمكنت من العثور على صديق جيد لديه الوقت والرغبة في القيام بالمهمة. كنت أتساءل لماذا قَبِل “ﭼﻴه بي” القيام بالأمر، لكني لم أسأله، خوفاً من أن يلغي عرضه. يفضل “ﭼﻴه بي” البقاء مجهول الهوية حتى يتمكن من السفر مرة أخرى إلى التلال والغابات والشواطئ الخضراء في الكاميرون دون خوف. بعد بضعة أيام، أخذ المترو إلى المكتبة وأنا إسترحت.
ساعدت أرشيفات الكاميرون تريبيون المحفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس ومكتبة جامعة هارﭭارد في بوسطن على سد ثغرات التحقيق.
ثم تلقيت مكالمة هاتفية من “ﭼﻴه بي” الذي قال أن المكتبة سمحت للقراء بالإطلاع على ۲۰ صندوقا فقط من الصحف يومياً. وأن الأمر سيستغرق وقتًا أطول للحصول على كل ما نحتاجه، وهو لم يكن لديه الكثير من الوقت في العمل لتكريسه للمشروع. يمكننا كتابة رسالة إلى المكتبة لطلب سحب المزيد من الصحف في كل مرة، لكن كان هذا شوطاً طويلاً جدًا نظرًا لتباطؤ الإدارة الفرنسية.
لحسن الحظ، عبر المحيط الأطلسي إحتفظ أرشيف جامعة هارﭭارد أيضًا بنسخ من الكاميرون تريبيون تمتد من عام ۲۰۰٥ إلى عام ۲۰۱٦.
لقد قمنا بتحديث استراتيجيتنا. سيُركز “ﭼﻴه بي” على الفترة من عام ۱۹۹۰ إلى عام ۲۰۰٥، وسنحصل على الباقي في بوسطن. على مدى عدة أيام، إلتقط ٣۰۹٥ صورة من الصحف في المكتبة الوطنية.
في بوسطن، تولت غايل المُهمة. زارت مكتبة جامعة هارﭭارد وأخذت ۷۸٦ صورة لصحفها الكاميرونية.
لدينا الآن مجموعة فريدة من المواد في محركات الأقراص الصلبة الخاصة بنا. على الرغم من فُقدان عدة سنوات كان من المُفترض جمعها.
مسافر بدون سبب؟
التقليب في ٣٥عاماً من صفحات الكاميرون تريبيون كان رائعاً: على مر السنين، إلتقى بيا بقادة العالم مثل رونالد ريغان ومارغريت تاتشر وفرانسوا ميتران. لقد سبق كل منهم في السلطة، وبقي بعدهم أيضًا.
بعد بحثنا في الأرشيف، قمنا ببناء الموقع www.cameroundebiya.com لتوفير الوصول إلى جميع الصفحات والبيانات الأولية، على أمل أن يستخدمها الآخرون لإخراج قصص أخرى مثيرة للإهتمام. تبين أن عرض ما يزيد عن ٤۰۰۰ صورة أمر صعب للغاية، ولكننا نجحنا في ذلك بفضل خبرة مُبرمجنا مايكل جاردينر.
بالإضافة إلى جمع الأوراق ببساطة، أَدخل فرانك وغايل جميع المعلومات إلى طاولة كبيرة، وهي مهمة شاقة نفذوها بدقة كبيرة. بمجرد أن قُمنا بتنظيف البيانات لإزالة التكرارات والدخول الجزئي، انتهى الأمر بـ ۱۹۰ رحلة تمتد على مدى ثلاثة عقود. يتطلب توثيق كل رحلة ما لا يقل عن صحيفتين، واحدة تشرح بالتفصيل رحيل بيا وأخرى تعلن عن وصوله، ولكن غالباً ما يستغرق الأمر عدة مقالات لتحديد كل التفاصيل
في كثير من الأحيان، أثناء سفره إلى الخارج في مهام رسمية، مدد الرئيس رحلاته لقضاء بعض الوقت في “زيارات خاصة” إلى ﭼِنيف. لذلك، حسبنا لكل رحلة مقدار الوقت الذي قضاه في غرضه الرسمي (مثل حضور الجمعية العامة للأمم المتحدة) وحسب الباقي على أنه وقت خاص. وحيثما كان ذلك متاحًا، فقد تحققنا أيضًا من النتائج التي توصلنا إليها من خلال معلومات من تنبيه مطار ﭼِنيف (GVA Alert)، وهي عبارة عن بوت على تويتر يسجل ذهاب و إياب الديكتاتوريين عبر مطار ﭼِنيف.
حاولت أيضًا الحصول على تعليقات على النتائج التي توصلنا إليها من فندق إنتركونتننتال في ﭼِنيف وسي إس للطيران (وهي شركة تستخدمها الحكومة الكاميرونية لاستئجار طائرات إضافية لرحلات بيا)، وبالطبع مكتب الرئيس، ولكننا لم نتلق رداً من أحد على أسئلتنا.
عندما اتصلت بمكتب رئيس وزراء الكاميرون في الساعة ٣۰ : ۹ صباحًا بالتوقيت المحلي، أخبرني عامل المقسم “على ما يبدو لا يوجد أحد في المكتب بعد” وطلب مني إعادة الإتصال بعد ساعتين. عندما اتصلت مرة أخرى بمكتب رئاسة الوزراء، أكدت امرأة بصوت ضجر أن بريدي الإلكتروني سيتم إرساله إلى “المسؤولين” ولم نسمع منهم أي شيء للمرة الثانية.
بعد أن قام مشروع الإبلاغ عن الفساد والجريمة المنظمة ( OCCRP) بتحرير شامل وفحص الحقائق، وخاصة خديجة شريفي وروزماري أرماو وسيرجيو إيباتي، كان المقال جاهزًا أخيراً للنشر.
يبدو أن النتائج التي توصلنا إليها ربما تكون قد وصلت إلى أبعد من الرئيس بول بيا نفسه وهو أمر صعب للغاية.
الموضوع المنشور ظهر لأول مرة في موقع مشروع الإبلاغ الفساد والجريمة المنظمة (OCCRP) وتم إعادة نشره هنا بإذن.
إيمانويل فرودنتال هو صحفي ومُصوّر صحفي مستقل يغطّي شرق ووسط أفريقيا، مع تركيز خاص على الأعمال التجارية والفساد والموارد الطبيعية والأراضي وحقوق الإنسان. كما يقوم بتدريب الصحفيين على أساليب التحقيق الخاصة بمؤسسة طومسون رويترز.