تتنوّعُ القصصُ التي تنتجها منظّمة Forensic Architecture حول القضايا المتعلّقة بالصّراع في الشرق الأوسط، من مشروعٍ يرسم خرائط التّهجير القسريّ في أحد أحياء القدس إلى تحليلٍ رقميّ للأثر الواقع على موقعٍ أثري جرّاء القصف المتكرّر في فلسطين.
تستخدمُ المنظّمة، ومقرّها في “غولدسميث” ضمن جامعة لندن، موادَّ مفتوحة المصدر وبيانات وصورًا فوتوغرافيّة وخرائط لصياغة تحقيقات بصريّة وتفاعليّة ديناميكية تمزج بين الخبرة في مجال حقوق الإنسان والبحوث والقدرات المعماريّة والقوة التّحقيقيّة.
أسّسَ “إيال وايزمان” منظمة Forensic Architecture سنة 2010، “وايزمان” مهندس معماري بريطانيّ إسرائيليّ، ورغم أن المنظمة صاحبة منظور عالميّ إلا أن تحقيقاتِ الشّرق الأوسط كانت دائمًا جزءا مهمًا من اختصاصها.
تتميز تحقيقات Forensic Architecture في جميع المجالات بقدرتها على العثور على أدلّة خفيّة أو تجميع خيوط مختلفة في سردٍ مقنع. وفي بعض الحالات، تكون الأحداث التي يبحثون فيها تاريخيةً مثل تحليلهم لحصار عام 1985 في قصر العدل الكولومبي. وفي حالات أخرى، يتفحّصون حدثًا إخباريًا راهنًا، مثل قصف برج تلفزيون في كييف بأوكرانيا في آذار 2022.
تغطّي تحقيقاتهم قصصًا دقيقة، مثل وفاة شابٍّ فلسطينيّ عند حاجز تفتيشٍ عسكريّ إسرائيليّ، كما تغطّي أحداثًا أكثر بروزًا، مثل التّحقيق في انفجار مرفأ بيروت الهائل أو التعمُّق في البحث حول مجموعة NSO الإسرائيليّة السرّيّة.
غالبًا ما لا يصف طاقم المنظّمة أنفسهم بأنهم صحفيون –في الواقع عدد المهندسين المعماريين يفوق عدد الصحفيين في الطّاقم – فإن مخرجاتهم استقصائيّة بلا شك. يعمل مع الصحفيين مهندسون ومحامون وفنانو جرافيك.
“نستخدم الأدوات المعماريّة للتّحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان”، تقول “نور أبو زيد“، وهي مهندسة معمارية باحثة وعضو في الفريق. “يتم ذلك من خلال دمج عناصر الملتيميديا المختلفة بما في ذلك الصّور ومقاطع الفيديو والصّوت، ووضعها داخل مساحة 3D لتحليل ودراسة العلاقات في ما بينها”.
غالبًا ما ينشئون منصّةً تفاعليّة للقضايا التي يحققون فيها حتى يتمكّن الجمهور والباحثون ونشطاء حقوق الإنسان من الوصول إلى قواعد البيانات والأدلة والتعرّف على منهجيّة التّحقيق. حتى أن بعض تحقيقاتهم استُخدمتْ في محكمة دولية.
أجرت الشّبكة الدّولية للصّحافة الاستقصائيّة مقابلات مع عضوين من الفريق: “نور أبو زيد”، التي تجري أبحاثًا مكانيّة وتبتكر أدوات حاسوبيّة للأتمتة والتصوُّر، و”عمر فرواتي“، الباحث ومنسّق المشاريع الذي يتراوح عمله من الغارات الجويّة إلى العنف الاستعماريّ إلى العنصريّة البيئيّة.
يقول “فرواتي” إن الصعوبة المستمّرة عند التّحقيق في الشّرق الأوسط هي “المعلومات والبيانات المتاحة في هذه المنطقة”. قد يتمّ تسييس المعلومات. على سبيل المثال، لإجراء تحقيق حول التّهجير القسريّ للعائلات الفلسطينيّة في حي الشّيخ جرّاح في القدس، لم تتمكّن أيّ منظّمة فلسطينيّة من المساعدة في تقديمِ بياناتٍ عن مواقع المنازل أو الممتلكات المهدومة حيث يتعرّض السكان للتّهديد بالإخلاء القسري. لدى بلديّة الاحتلال الإسرائيليّ سجلاتٌ كاملة لهذه المعلومات، بالإضافة إلى خرائط عالية الدّقة ورسومات تفصيليّة للمدينة.
تقول “أبو زيد” إن الفريق يحاول سدّ الفجوة باستخدام أدوات مفتوحة المصدر. قد يعني ذلك استخراج جميع المعلومات الممكنة من صورة فوتوغرافيّة، مثل استخدام تحليل الظِّل لتحديد وقت التقاطها. وتقول: “جزء من منهجيّة عملنا هو سدّ الفجوة وإكمال المشهد”.
وحيثما تتعمّد الكيانات إخفاء معلومات معيّنة لأنها قد تحتوي على أدلّة على انتهاك حقوق الإنسان، يكون التّحدي أكثر صعوبة.
ويوضح “فرواتي”: “نتحدّث عن المصدر المفتوح وضرورة تطويره لأن الاعتماد على المؤسّسات والطّرق التّقليديّة للحصول على المعلومات من خلال الحكومة أو المنظّمات أو المؤسّسات لا ينجح دائما ولا يوجد تعاون في هذا السّياق”. “نحن بحاجة إلى النّظر إلى ما هو موجودٌ بالفعل، مثل وسائل التّواصل الاجتماعي. لا تبدو مُهمةً وحدها، ولكن يمكننا البدء في مقارنتها ببعضها لبناء الحدث أو تصوُّره من جديد”.
يعتمد فريق البحث أيضًا بشكلٍ كبير على تسجيلات الفيديو والصّور الفوتوغرافيّة من المواطنين. يقول فرواتي: “هذه هي الطّريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة، ورؤية ما يكمن تحت السّطح”.
لكن قد يكون العثور على أشخاص مستعدّين للكلام في المنطقة قد يكون صعبًا: فالخوف من الانتقام يجعل الكثير من الناس حذرين.
تقول “أبو زيد”: “في بعض الأحيان يمتنع النّاس بسبب الخوف عن الإدلاء بشهادات حيّة عن العنف وانتهاكات حقوق الإنسان التي تعرّضوا لها”.
وفي إحدى الحالات – التحقيق في وفاة رجلٍ فلسطيني يبلغ من العمر 26 عامًا أطلقت القوات الإسرائيليّة النّار عليه عند نقطة تفتيش في الضفّة الغربيّة – تعقبَ الفريقُ الشّهودَ الذين صوّروا اللحظات التي تلتْ إطلاق النّار عليه، لكنهم كانوا يخشون في البداية من أن يتمّ التّعرُّف عليهم أو ربطهم بأيّ فيديوهات منشورة.
اكتسب الفريق جزءًا من خبرته في الإبلاغ عن هذا النّوع من الحوادث منْ توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا: وهو نزاع كانت إحدى الطّرق القليلة لمعرفة ما يجري فيه من خلال شهادات أولئك الموجودين على الأرض.
“هناك وفي أماكن أخرى، نعتمد على الأدلّة المتاحة للجمهور أو المنشورة علنًا على وسائل التّواصل الاجتماعي، والتي تم إنشاؤها وتحميلها من قبل المواطنين والشهود”، توضح “أبو زيد”. في مقاطع الفيديو التي تمّ تصويرها خلال الثّورة السورية، كان هنالك طريقة معيّنة للتّصوير، مثل عدم التّركيز على الوجوه في المظاهرات للتخفيف من احتمالية تعريض حياة أيّ شخص للخطر، وتوثيق التّاريخ والمكان بوضوح خلال الفيديو”.
مطابقة الأدلة
في معظم تحقيقات Forensic Architecture، يحتاج الباحثون إلى أكثر من دليل واحد، لذلك يبحثون في مصادر مختلفة من اللقطات من زوايا متعددة، ثم يحاولون مطابقتها. وكما تقول “أبو زيد”، فإن عملهم غالبًا ما يدور حول محاولة إعادة بناء حادث استنادًا إلى أجزاء أخرى من الأدلّة المتاحة.
قد تكون هناك لحظةٌ مهمّةٌ في الحادث لم يوثّقها أحد لفراغات في البيانات أو بسبب فجوات في صفحات وسائل التّواصل الاجتماعي. في بعض الأحيان – كما هو الحال عندما كانوا يحققون في تأثير القصف الإسرائيليّ على الكنوز الأثرية على ساحل غزة – عندها يلجأون إلى مصادر بديلة.
وتقول: “كان موضوعُ البحث موقعًا أثريًا مخفيًا تحت طبقات من الرّكام، وفي هذه الحالة، استخدمنا إعادة البناء الرقمي لإجراء البحث افتراضيًا”. “من خلال هذا البحث، أنشأنا نموذجًا دقيقًا للغاية للسّطح المكشوف للموقع والبقايا الأثريّة تحته. اعتمدنا على التّوثيق المسبق للموقع من قبل علماء آثار فلسطينيين وفرنسيين ووضعنا الصّور التي التقطوها داخل النموذج. كما حدّدنا خرائط لمواقع سقوط القنابل الإسرائيليّة على الموقع في الأعوام 2012 و2014 و2018 و2021. وبالتّالي، قدّم التحقيق عدّة مستويات من الأدلّة على استهداف المدنيين وتدمير التّراث الثّقافي”.
في تحقيقات أخرى، قد يكون هنالك مقطعا فيديو صوّرا نفس الحادث، كلٌّ منهما من زاوية مختلفة أو يلتقط صوتًا مختلفًا. في هذه الحالات، يحلّل المحققون كِلا التّسجيلين للحصول على أدلّةٍ تكميليّة، مما يحوّل المشروع إلى شيء شبيه بلعبة التّركيب التي يجمع الصّحفيون قطعها معًا حتى تتّضح الصورة الأكبر.
حتى عندما لا يُفصّلُ مصدران القصّة الكاملة، يمكن أن تساعد المصادر الثانويّة في إثراء السّرد أو توضيح السّياق.
على سبيل المثال، عندما حقق فريق Forensic Architecture في وفاة المهاجر السوري “محمد العرب” على الحدود التّركية اليونانيّة، نفت الحكومة اليونانية استخدامَ الذّخيرة الحيّة وأشارت إلى أنه قُتل في مكان مختلف وفي وقت مختلف. وفي هذه الحالة، وفّرت مقاطعُ فيديو من شهود عيان على الأرض سياقا رئيسيًا. قام الباحثون باستخراج جميع البيانات المهمّة من الفيديو الذي يمكنهم رؤيته عبر الإنترنت، والذي كشف عن وقت القتل والموقع وتفاصيل الحادث.
كما بحث باحثو Forensic Architecture عن أدلّة بصريّة مكانيّة في مقاطع الفيديو، مثل أعمدة الكهرباء أو العناصر المميزة لضفّةِ نهرٍ قريبة. ثم قارنوها بالخرائط الجويّة للمنطقة الحدودية حتى حصلوا على نتيجةٍ مُطابِقة.
ينصح ” فرواتي” الصّحفيين بتحليل اللقطات لحظة بلحظة حتى يركّزوا في تحليل الفيديو الاستقصائي، وأن يقسّموا الفيديو لمعرفة العناصر المتحرّكة أو الثابتة، ويروا كيف تغيّر الوضع.
“لهذا السّبب يجب أن تقضي الكثير من الوقت في مراقبة التّفاصيل الدّقيقة في كلّ فيديو أو صورة تريد الاستقصاء عنها. في حالة مقتل “أحمد عريقات“ [الرجل الفلسطيني الذي قُتل عند نقطة تفتيش]، عند مشاهدة الفيديو لأوّل مرة، لم يتمكّن أحد من معرفة ما حدث. عندما فُحِص المقطع وشوهِد لحظةً بلحظة، تمكّنا من رؤية الدّخان يتصاعد من كل إطلاق نار”.
تتبّع درب الأسلحة
عملت Forensic Architecture على عدد من التّحقيقات حول التفجيرات في سوريا والخسائر الجسيمة التي تُحدثها وأنواع الأسلحة والأسلحة الكيميائيّة المُستخدمة.
ومن بين التحقيقات التي عملت عليها المنظّمة في هذا السّياق تقريرها حول هجوم كيميائيّ في مدينة اللطامنة في سوريا، وهجمات مماثلة على مدينة دوما في ريف دمشق، واستهداف مستشفى في إدلب.
كما عمل “فرواتي” على مشروع يبحث في الأسلحة الأوروبيّة الصّنع التي يستخدمها التّحالف المدعوم من السّعودية في اليمن.
“في اليمن، أنشأنا منصّةً لتجميع أنواع مختلفة من الأبحاث في مكان واحد. الأبحاث على الأرض من قِبل النّاس، وتوثيق جرائم الحرب التي ارتكبها التّحالف الذي تقوده السعوديّة والإمارات العربية المتّحدة من خلال تحديد موقعها الجغرافي. هنالك عمل جارٍ في أوروبا أيضًا، للنّظر في الأسلحة التي تُباع للسعوديين أو الإماراتيين، ولفهم العلاقة بين الخطّ الزّمنيّ لجرائم الحرب هذه وجرائم الحرب المحتملة التي تحدث في المدارس والمستشفيات والمراكز الثقافية.”
ويوضح “الفرواتي” أن المنصّة – التي تم بناؤها بشكلٍ مشترك من قِبل Forensic Architecture والأرشيف اليمني وBellingcat والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان – تتضمّن تواريخ تصدير الدّول الأوروبية للأسلحة إلى السّعودية والإمارات– والإمارات عضوٌ في التحالف – والصّلة الزمنيّة بين وصول الأسلحة وعمليّات القصف.
ويقول: “بدون التّحقُّق من تاريخ تصنيع الأسلحة، لا يمكننا أن نعرف كيف ستُستَخدم= وما الغرض منها. كان الهدف هو الكشف عن العلاقة بين الجرائم في اليمن وتاريخ صادرات الأسلحة. إذا عرفنا متى صُنعت هذه الأسلحة، يمكننا أن نفهم الغرض منها”.
من خلال أبحاث المصادر المفتوحة، ومطابقة الأدلّة البصريّة، والعرض الهندسي، نجحت Forensic Architecture في تحليل وتفسير عدد من الظواهر والأحداث الحرجة في العالم العربي وكذلك على مستوى العالم.
يشرح “عمر فرواتي” كيف يتعاملون مع أبحاثهم: “نضع منهجيّة مختلفة لكل قصّة نعمل عليها. ننظر دائمًا في البداية ونطرح سؤالاً: ما الذي نبحث عنه وما هي الأدلّة الموجودة؟ ثم ننتقل للبحث عن النّقاط المجهولة في القضية لنستقصي عنها “.
هذه القصة هي الجزء الأخير من سلسلةٍ تبحث في الصّحافة الاستقصائية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أحمد حاج حمدو صحفيٌّ سوريّ. خرّيج كلية الإعلام في جامعة دمشق، نشر قصصًا مع شبكة أريج، و”درج”، و”الغارديان” ووسائل إعلام أخرى. أحدُ مؤسّسي وحدة التّحقيقات الاستقصائيّة السّوريّة من أجل صحافة المساءلة( سراج)، والوِحدة عضو في شبكة GIJN تركّز على تدريب الصّحفيين السّوريين.