على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، اتّخذتْ مجلة حبر الأردنيّة عدّة أشكال صحفيّة. تأسّستْ حبر سنة 2007 كمدوّنةٍ لصحافة المواطن تلبّي الطّلب على الأخبار خارج السّرديّة الرسميّة الحاضرة في الصّحف التّقليديّة. هذه المدوّنة التي بدأت كجهدٍ تطوّعي، تطوّرتْ على مرّ السّنوات لتصبح موقعًا إعلاميًا احترافيًا، ثمّ أصبحتْ مجلةً رقميّةً تسعى جاهدةً لتزويد القرّاء بالمعلومات والتّقارير خارج السردية الرسمية، التي تزود القرّاء بالمعلومات والتّقارير المبنية على الإحصائيات والمصادر التي تغيب في العادة عن المنصات الإعلامية التّقليديّة الأخرى.
تديرُ حبر الصّحفيّةُ الأردنيّة لينا عجيلات، إحدى الشّركاء المؤسِّسين، وهي أيضًا محاضِرة في معهد الإعلام الأردنيّ، وعملتْ سابقًا مراسِلةً لرويترز في العاصمة الأردنيّة عمّان. ووفقًا لعجيلات، “نما فريق تحرير المجلة وبات يضمّ اثني عشر محررًا وصحفيًا ومنتجًا للوسائط المتعددة”، يعملون من مكتب المجلّة في عمّان.
تمّ اختيار الموقع مؤخرًا كعضو في الشّبكة العالميّة للصّحافة الاستقصائيّة. التقت الشّبكة العالمية للصّحافة الاستقصائيّة مع لينا عجيلات، وصحفية حبر المخضرمة دلال سلامة، ورنا صباغ، كبيرة محرّري مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لفهم التاريخ الصحفي لمؤسّسة حبر ودورها في المنطقة.
في حين يبرز الأردن كبلد تتمتّع فيه الصّحافة باستقلالٍ نسبي مقارنةً بمعظم دول منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكنه ما يزال في المرتبة 120 من أصل 180 في مؤشّر حرّية الصّحافة العالمي لعام 2022 الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود. كما أشارت المنظّمة في تقييمها السّنوي إلى أن الإعلاميين في الأردن يواصلون “فرض الرّقابة على أنفسهم ومراعاة الخطوط الحمراء الضمنية حول مواضيع معينة” وأن وسائل الإعلام تواجه عقبات أخرى تحول دون استقلاليتها، بما في ذلك “المراقبة الدّقيقة من قبل وكالات الاستخبارات”.
يتفوّق الأردن على معظم نظرائه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجال حرية الصحافة، لكنه لا يزال في المرتبة 120 من أصل 180 في جميع أنحاء العالم في مؤشر حرية الصحافة العالمي لمنظّمة مراسلون بلا حدود. الصورة: غلاف البيانات
المعلومات والمعرفة والقصص
“منذ أن بدأنا، مرّ الموقع بمراحل وتغييرات مختلفة لأنه بدأ ضمن مجتمع المدوّنات الذي كان مزدهرًا في ذلك الوقت”، توضح عجيلات. “لم ينخرط الكتّاب على الموقع في عمليةِ تحريرٍ صارمة، فقد كانوا يكتبون في البداية شهادات وآراء وتجارب شخصيّة وأشياء تم نشرها كمدوّنات”.
في ذلك الوقت، شعر القائمون على الموقع أنهم قادرون على إنشاء منصّة تجمعُ نقاطَ القوّة في المدوّنات وبعض العناصر الصّحفيّة. كان تطوير الموقع ملموسًا، ولكنه لم يكن سريعًا. وبالتوازي مع ذلك، نفّذت حبر أنشطة غير متعلّقةٍ بالنّشر على الإنترنت، حيث استضافتْ لقاءات للكتابة والتّصوير الفوتوغرافي ومناقشاتٍ عامّة تفاعليّة.
قالت عجيلات: وصل الموقع في غضون أربع سنوات إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه ضمن نموذج صحافة المواطن. ارتفع عدد الأشخاص الذين يرسلون إلينا المقالات والصّور والأفكار. ونظّمنا جلسات نقاشية حول قضايا الإصلاح والتّغيير السّياسيّ. لكن هذه الحقبة لم تدُمْ طويلًا. الزّخم الذي ترافق مع بدايةِ موجةِ الاحتجاجات والانتفاضات في العالم العربي قوبل بانتصار القوى الرّجعيّة وشهدنا تغيّرًا في المناخ السّياسي… كما استحوذت منصّات التّواصل الاجتماعي على زمام الأمور وتراجع دور المدونات”.
اتّخذت المنصة شكلًا مختلفًا في عام 2012، بعد فترة وجيزة من بدْءِ ثوراتِ الرّبيع العربي في البلدان المجاورة للأردن. (شهدت الأردن بعض الاحتجاجات، إلا أنّ البلاد لم تشهد اضطرابًا سياسيًا على نطاق واسع). استند هذا النّهج الجديد إلى حقيقة أن “المعرفة والمعلومات هي المفقودة في هذا السّياق”.
كان الأردن أوّل بلدٍ عربي يسنّ قانون حقّ الحصول على المعلومات، لكن تطبيق القانون ما زال يواجه سلسلة من التّحديات، أبرزها تصنيف الكثير من الإجراءات الحكومية تحت تصنيفات شاملة لكونها “حساسة أمنيًا”، ولذلك لا تُفصحُ المؤسّسات الحكومية عن الكثير للصّحفيين.
“هناك مشاكل كبيرة في الوصول إلى المعلومات”، تقول عجيلات، مضيفةً: “لا تُصنَّفُ المعلومات في بعض الحالات بشكلٍ صحيح يمكّنُ الباحثين والصّحفيين من الوصول إليها، وهناك ثقافةٌ شائعةٌ لدى أجهزة الدّولة تتعامل مع معظم المعلومات على أنها سرّيّة وحسّاسة، لكننا نتعامل مع ذلك باستخدام المعلومات المتاحة التي لا يتم استغلالها في الصحافة إلى أقصى حدٍّ ممكن”.
كسر الحواجز ومواجهة رد فعل عنيف
منذ تطوّر مجلةِ حبر إلى موقعٍ إخباري احترافي قبل عقد من الزمان، نشرت المجلّة سلسلةً من التّحقيقات بعيدة المدى، التي تتناول في الكثير من الأحيان قضايا تتجاهلها وسائل الإعلام التّقليديّة. من بينها قصةٌ نشرتْ سنة 2019 بعنوان أربعة أجيال من الباكستانيين في الأردن: عالقون بين وطنين. تحدّث التّحقيق عن أجيال من الباكستانيين يعيشون في الأردن منذ الستينات، ويقيمون في أكواخ مصنوعة من الخشب والبلاستيك قرب المزارع التي يعملون فيها. معظم الأردنيين لا يعرفون شيئًا عن هذه التجمّعات، ولا يغطّيها الإعلام تقريبًا. زارت معدّةُ التّحقيق هذه التجمّعات المهمّشة لتطّلع على حياتهم ولتفهم كيف عاشوا في البلاد لعقود دون أن يتمتعوا بأيّ حقٍّ من حقوق المواطنة، ودون أن تتاح فرص التّعليم لأطفالهم.
وكشف تحقيقٌ آخر بعنوان “سكان كهوف البتراء: عندما يهمش المخططون احتياجات الناس” أن الحكومات المتعاقبة قامتْ بحملةٍ لإخراج الأهالي الذين يعيشون في كهوفٍ بالقرب من مدينة البتراء السياحيّة الشهيرة في الأردن. وقد صيغت خطط الحكومة دون شراكةٍ حقيقيّة مع المجتمع المحلي، ولم تلبِّ البدائلُ المقدمةُ احتياجاتِ النّاس الحقيقيّة.
أكسبْهم هذا العمل تقدير الزّملاء الصحّفيين العاملين في المنطقة. قالت رنا صبّاغ، كبيرة محرّري مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد في المنطقة إنّها “تابعت شخصيًا تطوّرَ حبر منذ تأسيسها سنة 2007. تميّزت المجلّة بتغطيتها المتعمّقة للقضايا المهمّة التي لا تغطيها وسائل الإعلام التّقليديّة وغير التقليدية في الأردن. مجلة حبر لها أسلوبها في الكتابة. تحقيقات المجلة وتقاريرها عميقةٌ، كما أنها في الوقت ذاته ممتعةٌ وسلسةٌ ولا تستعصي على القارئ. تتميز حبر باستقلاليةٍ عالية، في بلدٍ يُطلب فيه من المحرّرين، بغضّ النظر عن خبرتهم، اتّخاذ موقفٍ واضح سواء مع الحكومة أو ضدّها، ولا توجد طريقةٌ للمحافظة على الاستقلالية وممارسة دور السُّلطة الرّابعة”.
تقول عجيلات إنه ما زال على المجلة اجتياز الخطوط الحمراء الكثيرة لما تعتبره المنظومةُ الرّسميّةُ تغطيةً إخباريّةً مقبولة. وأضافت إن هذه القيود الرّسميّة وغير الرّسميّة لا تقتصر على العائلة المالكة، ولكنها غالبًا ما تكون أوسع نطاقًا. كما أوضحت أن القضايا ذات البعد المحلّي البحت قليلةٌ جدًا نظراً للدّور الجيوسياسي الفريد للأردن في المنطقة، مما يعني أن التّغطية التي قد تؤثّر على حلفاء مثل الولايات المتّحدة أو بعض دول الخليج كالمملكة العربيّة السعودية والإمارات العربية المتحدة يمكن أن تشكل أيضًا تهديدات بالرّقابة أو ما هو أسوأ.
تعرّض موقع حبر لحملة من هذا النّوع في عامي 2013 و2014. حجبت الحكومةُ الأردنيّة موقعَ حبر عدة مرّات خلال تلك الفترة لأنّ حبر رفضت التّرخيص وفقًا لقانون المطبوعات والنشر المعدّل في البلاد لعام 2012. كانت الإدارة – ولا تزال – ضدّ شرط التّرخيص هذا، واصفةً إيّاه بأنّه أداةٌ واضحة للرّقابة والسّيطرة على وسائل الإعلام. اتّهمت الحكومةُ مؤسسةَ حبر بإدارة مؤسسة صحفية غير مصرح بها. خسرت المؤسّسة القضية في نهاية المطاف واضطرت إلى دفع غرامة.
وفي هذا السياق تقول عجيلات: “بحلول نهاية عام 2014، وصلنا إلى خلاصة مفادها أن الاستمرار في العمل يتطلب ترخيصًا”. كان هدف الحكومة هو تصعيب تأسيس المزيد من المواقع الإلكترونية، ثم جاء ذلك على وسائل التّواصل الاجتماعي من خلال قانون الجرائم الإلكترونيّة، واستمرّت محاولات السّلطات للسّيطرة على النّقاش العام وتقليص المساحة المتاحة لها”.
البقاء على قيد الحياة في بيئة معادية
منذ أن تطوّر حبر من مدوّنة إلى موقع إخباري احترافي، استفادت المؤسّسة من شبكة مانحين تضمّ مؤسّسة المجتمع المفتوح، والصّندوق الأوروبي للديمقراطيّة، ومنظّمة دعم الإعلام الدنماركيّة، والسفارتين الهولنديّة والسويسريّة في عمان. وفي حين فضّلت عجيلات عدم الكشف عن الميزانية السنويّة للموقع، تقول إن لحبر مصادر دخل أخرى كتقديم الخدمات التّحريريّة والبرامج التدريبيّة.
تقول عجيلات: “نعمل حاليًا على استراتيجيّة عمل جديدة لأنّنا مهتمّون جدًا بتقليل الاعتماد على المنح. لطالما كانت مسؤوليتنا الرئيسية أمام قرائنا، وليست أمام المموّلين، ولهذا من المهم إيجاد مصادر إيرادات جديدة، بما في ذلك برنامج العضوية الذي سنطلقه قريبًا”.
تقول الصّحفيّة دلال سلامة: “إن الصّحافة السّائدة في الأردن تفتقر إلى تقليدٍ استقصائيّ حقيقي. وأوضحت أن نمط التّغطية الإخباريّة العاجلة للأخبار حال حدوثها هو النّمط السّائد، والذي غالبًا ما يُقدَّمُ بسرعة ودون عمق أو بحثٍ حقيقيّ في الخلفيّة أو السّياق. هذه هي الفجوة التي تهدف الصحافة الاستقصائيّة في حبر إلى سدّها”.
كانت سلامة في يومٍ من الأيام معلّمة، لكنّها انتقلت إلى الصّحافة، أولًا بالعمل في مجلّةٍ إخباريّة أسبوعيّة محلّية. وتحوّلت لاحقًا نحو الصحافة الاستقصائية كمراسلة في مجلة “السجل”، وهي مجلة أردنية مرموقة أغلقت أبوابها الآن، وصحيفة الغد، وهي إحدى أبرز وسائل الإعلام في البلاد.
وتوضح سلامة أن “فريق التحرير يختار الأفكار الاستقصائيّة من القضايا التي تؤثّر على حياة الناس، والتي يمكن أن تهم جمهورًا واسعًا”. يحاول الفريق على في أداء السلطة، بأشكالها المختلفة، والحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني. “نحن نركز أيضًا على معالجة القضايا التي لم يتم تغطيتها حقا في وسائل الإعلام.”
ولعل أهم صعوبة في عمل التحقيقات التي قامت بها حبر هي التحدي الشديد المتمثل في الحصول على البيانات والمعلومات الرسمية ذات الصلة. ويرجع هذا النقص في الشفافية إلى عدة عوامل من سرية الدولة المتفشية إلى أنظمة الأرشيف الورقية البدائية، إلى الغياب العام لحفظ السجلات. تقول سلامة: “إذا لم يتم العثور على معلومة مفصلة، فإننا نوضحها للقارئ”. وبعبارة أخرى، سيذكر التقرير أن هناك معلومات محددة لم نتمكن من الحصول عليها، ونشرح السبب”.
وإلى جانب صعوبة الوصول إلى المعلومات، هناك تحد آخر يواجه الصحفيين يتمثل في صغر حجم البلاد نسبيًا، مما يجعل بناء المصادر داخل جهاز الدولة أكثر صعوبة لأنه من الأسهل بكثير تحديد المطلعين والمبلغين عن المخالفات. وهذا بدوره يجعل من الصعب إقناع المصادر الأخرى بالتحدث. ومع ذلك، حققت سلامة نجاحًا في الكشف عن قصص أولئك الذين يتم تجاهلهم عادة من قبل وسائل الإعلام التقليدية في البلاد، مثل كشفها عن محنة اللاجئين اليمنيين في عمان.
وقد دفع هذا التحقيق الفريق في حبر إلى أن يكون واسع الحيلة ومبدعًا، وأن يبحث عن مصادر بديلة ثاقبة. قد يكون هذا مسؤولًا سابقا في هذا القطاع، متقاعدًا الآن، لم يعد لديه طموحات أو مخاوف مهنية وسياسية. وتوضح سلامة قائلةً: “أجد أيضًا أن الكثير من المعلومات والبيانات التي يرفض المسؤولون تقديمها يمكن العثور عليها في الدراسات العلمية”. “لأنه من المعروف أن المعلومات عادة ما يتم حجبها عندما تكون لغرض صحفي. ولكن هناك بعض التساهل عندما يكون الغرض هو البحث العلمي”.
ومن وجهة نظرها، يجب أن تكون قاعدة الموارد هذه متنوعة ولا تشمل المسؤولين الحكوميين والخبراء التقنيين والأكاديميين فحسب، بل يجب أن تشمل أيضًا أشخاصًا “عاديين” من جميع مناحي الحياة. وبعبارة أخرى، أولئك الذين غالبًا ما تكون حياتهم هي الأكثر تأثرًا بسوء السلوك أو الفساد أو غيرها من المخالفات.
الالتزام بالصحافة الرقابية والمساءلة
تقول عجيلات إن الهدف من تغطية حبر هو أن يفهم القراء سياق وأبعاد الموضوعات التي يغطونها بشكل شامل، حتى يتمكنوا من تكوين رأي يستند إلى أدلة قوية. وتضيف أن فهم الجمهور لا ينبغي أن يكون تعسفيًا أو متأثرًا بضجيج النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي. “نحن نمنح الصحفي شهرين للعمل على قصة للوصول إلى قلب الموضوع، وغالبًا ما يحدث أنه أثناء العمل على القصة، يتم إطلاق أسئلة جديدة، ويتم منحهم المزيد من الوقت” ، كما تلاحظ. “هذه المساحة مهمة جدًا.”
“يجب على أي مؤسسة صحفية ترغب في العمل بالصحافة الاستقصائية أن تعرف أن هذا يستغرق وقتًا طويلًا ولن ينجح في المواقع التي تعتمد على الأخبار اليومية وحجم الزيارات المرتفع والإعلانات” ، تنصح عجيلات: “يجب أن يكون الصحفيون في حالة تطور مستمر، في محاولة لبناء فهم عميق للموضوع، والتحقق من الحقائق بشكل مهووس من أجل تزويد القراء بمواد موثوقة تلتقط الفروق الدقيقة والتعقيدات في القضايا التي تهمهم.”
هذه القصة هي الأحدث في سلسلة تبحث في الصحافة الاستقصائية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
موارد إضافية
“التغطية الصحفية من الخارج”: دروس من الصحفيين الاستقصائيين في المنفى
نصائح المراسلة كاتي ماكي لتغطية العمال المهاجرين في دول الخليج العربي
الإبلاغ عن الهجرة في الخليج: دليل الشبكة العالمية للصحافة والهجرة
أحمد حاج حمدو صحفي سوري. وهو خريج الإعلام من جامعة دمشق، وقد نشر قصصا مع مراسلون عرب من أجل الصحافة الاستقصائية، ودرج، والغارديان، وغيرها من وسائل الإعلام. وهو المؤسس المشارك في الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية (سراج)، وهو عضو في الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية يركز على تدريب الصحفيين السوريين.