لطالما عرف الصحفي العماني محمد الفزاري أن إطلاق مشروع إعلامي مستقل يركز على دول الخليج العربي ينطوي على السير في خط حذر.
يقول الفزاري: “لم نكن نريد أن نترك أي مجال للسلطات لوقف نشاطنا”، لكن مشروع “مواطن“، الذي أطلق في عام 2013، لم يكن ينشر لفترة طويلة قبل أن يغلقه النظام. غادر البلاد في صيف عام 2015 بعد تعرضه للاضطهاد والمضايقة والاعتقال، ويعمل الآن من لندن.
الفزاري واحد من عدد لا يحصى من قصص الصحفيين وصانعي الأفلام والمراسلين الاستقصائيين، الذين يضطرون في كفاحهم لتغيير المشهد الإعلامي في المنطقة إلى العمل من الخارج.
يقول الفزاري إن السلطات في دول الخليج تنظر إلى الصحافة على أنها نوع من خدمة العلاقات العامة، المصممة فقط للدعاية حول سياساتها. ويقول: “أي كيان يحاول أن يكون مستقلَا ويمارس دورًا رقابيًا مباشرًا كسلطة رابعة يتعرض للمضايقة والتوقف”. هذا ما حدث مع أكثر من منظمة [إعلامية]، تم حظرها ومحاكمة صحفييها أو سجنهم”.
بينما شهدت بلدان مثل الأردن ولبنان وتونس نموًا في قوة المؤسسات الإعلامية المستقلة المحلية في السنوات الأخيرة، مدفوعة بظهور منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن وضع الصحافة في الخليج لم يتغير كثيرًا، ولا تزال التحديات التي تواجه الصحفيين في المنطقة هائلة.
تحتل دول مجلس التعاون الخليجي الست – البحرين والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – بشكل روتيني مراتبًا متأخرةً في مؤشر حرية الصحافة العالمي السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود، بسبب هجماتها المستمرة على حرية التعبير، وقوانين الجرائم الإلكترونية القاسية، والقيود الشديدة المفروضة على نشاط الصحفيين المستقلين. وفي عام 2022، احتلت قطر، التي تستضيف هذا العام كأس العالم للرجال، المرتبة 119 في العالم (من أصل 180)، وتبعتها الإمارات العربية المتحدة في المرتبة 138، والكويت في المرتبة 158، وعمان في المرتبة 163، والمملكة العربية السعودية في المرتبة 166، والبحرين في المرتبة 167. (اليمن، التي ليست عضوا في مجلس التعاون الخليجي، جاءت في المرتبة 169). تقع كوريا الشمالية على بعد اثني عشر موقعا فقط ، مع أسوأ حرية صحافة في العالم.
ويواجه الصحفيون الذين يحاولون النأي بأنفسهم عن الرواية الحكومية الرسمية – والقصة التي تتبناها وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية – بشكل روتيني المضايقات والاضطهاد.
هذا الواقع غالبًا ما يترك للصحفيين المستقلين الناشئين خيارًا واحدًا: محاولة العثور على موطئ قدم في المنفى. ونتيجة لذلك، ظهرت العديد من المنصات الإعلامية التي تركز على الخليج في السنوات الأخيرة. وفي حين أن هناك فوائد أمنية للعمل في المنفى، إلا أنهم ما زالوا يواجهون سلسلة من التحديات الصعبة، بما في ذلك بعدهم عن المنطقة، والسيطرة الشديدة على تدفق المعلومات من قبل الحكومات، وندرة البيانات الرسمية المتاحة، ونقص التمويل. وفوق كل هذه العقبات الموقف العدائي لحكومات الخليج، التي تصور وسائل الإعلام المستقلة على أنها “مشاريع معارضة سياسية” تريدالإطاحة بأنظمتهم.
ولفهم أفضل للكيفية التي يمكن بها للصحافة المستقلة أن تكون حاضنة ناجحة للعمل الاستقصائي في هذه المنطقة من بعيد، تحدث GIJN مع ثلاثة صحفيين خليجيين محليين يقدمون الآن تقارير عن المنطقة من المنفى.
تجنب وصمة المعارضة السياسية
منذ مغادرته عمان إلى المملكة المتحدة، يحاول الفزاري تبديد أسطورة “المعارض السياسي” التي تطارد الصحفيين المستقلين في الخليج. لكن هذا النوع من التقارير التي أراد القيام بها لم يكن ممكنًا داخل البلاد.
يقول: “لم نتمكن من ممارسة الصحافة الاستقصائية في عمان”. هذا النوع من الصحافة مكلف، وكنا منظمة صغيرة لم تحصل على أي تمويل”. كان الداعمون يخشون دعم منظمة ذات خط تحريري مستقل، في حين أن الدعم الخارجي من الممولين الأجانب من شأنه أن ينتهك القانون العماني.
غادر البلاد في نهاية المطاف في عام 2015. وكان جواز سفره وبطاقة هويته قد ألغيا في العام السابق بسبب احتجاج نظمه مع زملائه من الكتّاب. وبعد مرور ما يقرب من ثماني سنوات، لا تزال السلطات تحتفظ بجميع وثائقه على الرغم من مناشدات مقرري الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، وبيان دعم من مجموعة كبيرة من المثقفين العمانيين.
لكن إدراكا بأن مستقبل مواطن يكمن في الخارج، في عام 2017، أعاد الفزاري تشغيل المنظمة، وهذه المرة في المملكة المتحدة بفريق جديد. تلقى تمويلًا من مؤسسة المجتمع المدني ومن الصندوق الوطني للديمقراطية الذي تموله الحكومة الأمريكية. وقد نجح المشروع في الشراكة مع صحفيين وكتاب من الدولة الخليجية، وفي حين أن التركيز على الصحافة الاستقصائية هو مبدأ أساسي، إلا أنهم ما زالوا يخطون هذا الخط الرفيع، في محاولة لتجنب نشر الفضائح المسيسة للغاية.
ويوضح قائلًا: “لقد نجحت تجربتنا لكسب ثقة الناس والتغلب على مزاعم كوننا مشروعًا سياسيًا إلى حد كبير مع القراء من منطقة الخليج”. في السابق، كان التفاعل من سكان الخليج على منصات مواطن “شبه معدوم”. لكن الآن: “نلاحظ أنهم يتفاعلون ويشاركون كثيرًا. البعض يشارك ويكتب معنا من داخل عمان والخليج وهذا أمر إيجابي”.
ويوضح قائلًا: “أثبتنا أن مواطن مشروع جاد، وأننا لم نستخدم المساحة الحرة في المنفى لشيطنة الحكومات والأنظمة في الداخل، بل واصلنا عملنا كصحافة مستقلة وموضوعية”. في السنوات الأخيرة، أنتجت مواطن قصصًا عن الرقابة الحكومية العمانية والهجمات الإلكترونية ضد مواطنيها، وتأثير الخصخصة المتزايدة في دول الخليج، وتدمير القضاء في المملكة العربية السعودية.
ولكن حتى في الوقت الذي يقع فيه مقر مواطن في الخارج، يدرك الفزاري أن التهديدات المحتملة التي تواجهها المصادر والمراسلون داخل البلاد حقيقية للغاية. لذلك ينشر بعض الصحفيين العمانيين قصصهم باستخدام أسماء مستعارة، كما يقول، وفي العام الماضي فقط تمكنت مجموعته من الكشف لأول مرة عن أسماء مجلس إدارتها وأعضاء الفريق الذين يعيشون في المنفى أو في دول الخليج والدول العربية المجاورة.
وعلى الرغم من أنها محاولة طويلة وتستلزم وقتًا طويلًا، إلا أن الفزاري يعتقد أنه إذا زوّد الجمهور بتقارير موضوعية، فسوف ينظر إليه على أنه صحفي مستقل ناقد وليس كلاعب سياسي يريد الإطاحة بالحكومة، وهو مسار يجلب المصداقية لمنظمته ونوع التقارير التي يريد هو وفريقه القيام بها.
التغلب على عقبات إعداد التقارير عن بعد
أنتجت الصحفية المستقلة والمخرجة السعودية صفاء الأحمد سلسلة من الأفلام الوثائقية البارزة مع هيئة الإذاعة البريطانية. ومن بينها: “الحراك السري في المملكة العربية السعودية“، الذي يروي قصة قادة المعارضة في البلاد، وفيلم “الحوثيون من الجبل إلى السلطة“، الذي يفصّل صعود جماعة الحوثي المتمردة إلى السلطة في اليمن المجاور، والتي تشن السعودية حربًا ضدها منذ ما يقرب من ثماني سنوات.
كانت التكلفة الشخصية لهذه التحقيقات باهظة. حيث واجهت الأحمد وابلًا من الانتقادات عبر الصحافة السعودية الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث اتُهمت بالعمالة لصالح إيران، التي اتُهمت بتمويل الحوثيين وإمدادهم. وبينما كانت تعمل على الفيلم عن الجماعة المتمردة، تم طردها علنا وتقول إنها لم تعد قادرة على العودة إلى أجزاء كبيرة من اليمن.
وتقول إن التحدي يكمن جزئيًا في حقيقة أن الصحافة الاستقصائية لم يُسمح لها بالازدهار.
“في منطقة الخليج، لا يوجد تاريخ من العمل الاستقصائي، وهذا الفضاء لم يكن موجودًا حتى”، تلاحظ الأحمد. وتقول إن التقارير الاستقصائية في المنطقة “تفتقر إلى كل شيء، بما في ذلك الموارد اللازمة، والموظفين المدربين، ومجتمع من الصحفيين الخليجيين في مكان معين. لا توجد قوى عاملة ولا معدات”.
وتقول إن الضغوطات كبيرة لدرجة أن بعض الصحفيين يتركون الصحافة تمامًا، حتى ولو مرة واحدة في المنفى، بينما يواصل آخرون العمل تحت أسماء مستعارة، خوفا من الآثار طويلة الأجل المترتبة على هذا النوع من التقارير.
وتقول: “نحن، الذين في المنفى ونستطيع أن نكتب بأسمائنا الحقيقية، قليلون ونحن منهكون”، مضيفة أن العيش في المنفى يجلب تحدياته النفسية الخاصة. “كل واحد منا يتيم في بلد ما … والغالبية إما أن تلجأ إلى العمل في أماكن غير خليجية أو تختار مصادر أخرى لكسب العيش”.
واحدة من أصعب العقبات أمام وسائل الإعلام الخليجية في المنفى هي صعوبة الوصول إلى مصادر بشرية موثوقة في المنطقة. وغالبًا ما تتحكم الدول في تدفق المعلومات، بينما تصف الصحفيين المستقلين بأنهم معارضون للنظام، مما يجعل المصادر متوترة بشأن التحدث إلى الصحفيين. لكن بعض القدرة على الوصول إلى أولئك الذين يعيشون في منطقة الخليج أمر حيوي.
تقول الأحمد: “لا يمكنني التفكير بشكل خلاق أو التحقق من المعلومات إذا لم أكن على الأرض”، مشيرةً إلى أنه بالنسبة لصانعي الأفلام على وجه الخصوص، يشكل إعداد التقارير في المنفى تحديات خاصة.
يواصل بعض الصحفيين عملهم من خلال التعاون مع وسائل الإعلام الدولية، باستخدام خلفيتهم وخبرتهم للمساعدة في تشكيل التغطية الأجنبية. ولكن حتى هذا يجلب تحديات، وفقا للأحمد، التي تقول إن المنافذ والمنصات الدولية يمكن أن تفوّت الفروق الدقيقة اللازمة لتغطية القصة. وتصف هذه المعضلة بأنها عالقة بين المحلي والأجنبي. وتوضح: “المنصات المحلية، حيث لم أجد الاستقلالية، ومنصّات البث الأجنبية والدولية تنظر إلى القضايا السعودية والخليجية من وجهة نظر الرجل الأبيض، مما يخفف من أهمية القضايا الأساسية”.
بناء أسس متينة – وتمويل – لوسائل الإعلام في المنفى
كما أن حقيقة أن العديد من المراسلين المنفيين منتشرون في جميع أنحاء العالم تشكل تحديا أيضًا، كما تقول الصحفية البحرينية نزيهة سعيد.
كانت سعيد مراسلةً لعدد من وسائل الإعلام لأكثر من 20 عامًا، مع التركيز على القضايا السياسية والجنسانية وحقوق الإنسان، وحصلت على جائزة يوهان فيليب بالم لحرية التعبير. لكنها تقول إنها أجبرت على مغادرة بلدها الأم في عام 2016 إلى أوروبا بعد اعتقالها وتعذيبها ومحاكمتها، فضلًا عن سحب ترخيصها الصحفي من قبل الحكومة.
وفي حين أن الصحفيين الخليجيين المنفيين ينتجون صحافة بارزة، فإنها تعتقد أن الصحافة الخليجية في المنفى لا تزال مشتتة للغاية. وبينما ينتج الصحافيون في المنفى أعمالًا قوية، أو يعملون مع قنوات أجنبية محلية أو إقليمية لمواصلة التغطية الصحفية من بعيد، تقول إن هؤلاء الصحفيين لا يشكلون بعد صوتًا متماسكًا لشعوب الخليج في الخارج.
وتشير سعيد أيضًا إلى أن الصور النمطية عن المنطقة تقف في طريق دعم المزيد من حرية الصحافة. وتوضح أن “دول العالم الأول لا تزال لا تعتبر دول الخليج دولًا محرومة من الحريات أو حرية الصحافة والتعبير، لذلك نادرًا ما تدعم محاولات إنشاء إعلام خليجي في المنفى”.
وبالمثل، تشير الأحمد إلى كيف يمكن أن تؤثر التحيزات حول البلدان في الشرق الأوسط التي تستحق التغطية أو لا تستحق التغطية على التمويل.
وتقول إن المواقع الإعلامية المستقلة التي يديرها صحفيون من سوريا واليمن غالبًا ما تتلقى دعمًا ماليًا من المنظمات المانحة. وتضيف: “لكن في الحالة السعودية، على سبيل المثال، فإن غالبية هذه المنظمات المانحة لا تقدم الدعم للخليج نظرا لأنه منطقة غنية، مما يجعل الحصول على دعم غير مسيس أمرا صعبا للغاية”.
أمل في المستقبل
ويعتقد الفزاري أنه مع وجود ما يكفي من الالتزام وقوة الإرادة، يمكن لوسائل الإعلام الخليجية في المنفى أن تكون حاضنة للصحافة الاستقصائية في المنطقة. إن التواجد خارج البيئة الصحفية القمعية في المنطقة يمكن أن يسمح لمواقع مثل “مواطن” بالازدهار، ويوفر الإلهام لهذا النوع من الصحافة الاستقصائية المطلوبة داخل الخليج. كما أن صعود المعلومات والأدوات مفتوحة المصدر يوفر أيضًا فرصًا جديدة.
ويشير الفزاري إلى أنه “لولا التقدم التقني والمنصات الاجتماعية والوصول إلى محركات البحث، لما كان جزء كبير من محتوى مواطن موجودًا”.
ومع ذلك، لم يكن لدى أي من الصحفيين الذين تم الاتصال بهم من أجل هذه القصة أي شكوك حول مدى الحاجة إلى مزيد من التقدم.
تقول الأحمد إنه في حين تم استهداف صحفيين مثلها بالانتقاد ووُصفوا بأنهم “مناهضون للحكومة”، فإن دورها في الواقع كصحفية مستقلة “هو أن يكون لديها مساحة صحية” يمكنها من خلالها انتقاد الحكومة. في حين أن الصحافة الاستقصائية “معادية للسلطة بطبيعتها وتشكك في الرواية الرسمية”، فإن هذا لا ينبغي أن يعني أن الصحفيين أنفسهم مسيسون، كما تقول.
في الوقت الحالي، تقول إنه بالنسبة للعديد من الصحفيين، فإن هذا يعني خلق مساحة لعملهم في المنفى.
وتتساءل: “كم عدد الصحفيين الاستقصائيين الموجودين في الخليج؟” لتوضيح الحجم المستمر للمشكلة. “كم منهم فر إلى المنفى؟”
موارد إضافية:
نصائح المراسلة كاتي ماكي لتغطية العمال المهاجرين في دول الخليج العربي
الإبلاغ عن الهجرة في الخليج: دليل الشبكة العالمية للصحافة والهجرة
“التغطية الصحفية من الخارج”: دروس من الصحفيين الاستقصائيين في المنفى
أحمد حاج حمدو: صحفي سوري. وهو خريج الإعلام من جامعة دمشق، وقد نشر قصصًا مع إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، ودرج، والغارديان، وغيرها من وسائل الإعلام. وهو مؤسس مشارك في الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية (SIRAJ)، العضو في الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية وتركز على تدريب الصحفيين السوريين.