في 18 آذار/مارس 2019 ألقتْ طائرةٌ مقاتلة أمريكيّة كانت تبحث عن أهداف إرهابيّة لداعش قنبلةً على حشدٍ كبير من النّساء والرّجال والأطفال بالقرب من بلدة الباغوز في سوريا، ثم ألقتْ طائرةٌ أخرى تابعةٌ للتّحالف قنبلتين أخريين على النّاجين. وبعيدًا في مركزٍ للعمليّات الجويّة العسكريّة الأمريكيّة في قطر، كتب أحد “المحللين المرتبكين” الذين يراقبون الطّائرات المسيَّرة “منْ ألقى تلك القنبلة؟” في نظام المراسلة الآمن، وفقًا لصحيفة النيويورك تايمز. وذكرت الصّحيفة أن قرابة السّبعين شخصًا، بينهم عشرات المدنيين، قُتلوا على الأرجح بهذا الخطأ الكارثيّ.
في 29 آب/أغسطس من العام الماضي، قُتل عشرة أشخاص – كلّهم مدنيّون – بصاروخ Hellfire أطلقتْه طائرةٌ مسيَّرة على فناءٍ في كابول بأفغانستان. الهدف: رجلٌ – تبيّن لاحقًا أنّه عامل إغاثة – تعقّبتْه طائرةُ استطلاعٍ مسيّرة من طراز Reaper وشوهد وهو يضع أشياء في سيّارة، فسّرها المحلّلون البعيدون خطأً على أنّها قطعٌ من قنبلة.
هاتان حادثتان فقط من بين أكثر من 1,300 حادثة لخسائر في الأرواح عاينها فريقٌ من صحيفة التّايمز في كشفٍ صحفيٍّ عن الحرب الجويّة للتّحالف الذي تقوده الولايات المتّحدة ضد داعش في الشّرق الأوسط منذ عام 2014. واستنادًا إلى تحليلها الشامل، خلصت الصّحيفة إلى أن “علّة الحرب الجويّة الأمريكية تمثّلت بالمعلومات الاستخباراتيّة المغلوطة، والاستهداف المتسرِّع وغير الدّقيق، ومقتل الآلاف من المدنيين”.
نزلتْ سلسلةُ النيويورك تايمز الدّامغةُ المكوّنةُ من ثمانية أجزاء كالصّاعقة على وزارة الدّفاع الأمريكية، كما فازت السّلسلة في أيّار بجائزة البوليتزر عن فئة التّقارير الدّوليّة. أشادت لجنة البوليتزر عند منحِ الجائزةِ بـ “العمل الصحفيّ الشّجاع والّدؤوب الذي كشفَ الخسائرَ المدنيّة الهائلة للغارات الجويّة التي تقودها الولايات المتّحدة، بشكلٍ يُعارض الرّوايات الرّسميّة عن الاشتباكات العسكريّة الأمريكيّة في العراق وسوريا وأفغانستان”.
استُخدمَ أسلوبٌ مهمٌّ في هذا المجال الاستقصائيّ من قِبل صحفيين وباحثين من مجموعتين غير ربحيتين من المملكة المتحدة: مكتب الصّحافة الاستقصائيّة (TBIJ) – وهي منظّمةٌ عضو في GIJN استخدمت الوثائق العامّة والتّقارير الصّحفيّة وبعض المصادر الأصليّة لتتبُّع غارات الطّائرات المسيَّرة في الشرق الأوسط منذ عام 2010 – و Airwars ، وهي جهةٌ مراقبةٌ استخدمتْ مجموعةً واسعة من المصادر، بما في ذلك محتوى باللغة العربية من وسائل التّواصل الاجتماعي وتقارير المنظّمات غير الحكوميّة، لتوثيق خسائر الأرواح بين صفوف المدنيين النّاجمة عن الغارات الجويّة والمدفعيّة في المنطقة منذ عام 2014. استند تحقيقُ التايمز إلى تقارير ميدانيّة في أكثر من 100 موقع للإصابات المدنيّة في العراق وسوريا وأفغانستان، ومقابلات مع مطّلعين عسكريين وشهود، وأدلّة من قواعدِ بيانات مثل Airwars، وتحليل لمجموعةٍ من وثائق التّقييم العسكري السرّيّة التي حصلوا عليها بموجب قانون حق الحصول على المعلومات الأمريكي.
كشفتْ صحيفة التايمز عن ارتكاب مخطّطي الغارات خطأين يعزّزُ أحدهما الآخر. الأول هو التّحيُّز التّأكيدي (الميل لتفسير الأمور استنادًا لمعتقدات الشخص وافتراضاته المسبَقة)، حيث غالبًا ما كانوا يسيئون تفسير الأشياء والأنشطة اليومية على أنّها أنواع من الأسلحة أو حركات مشبوهة كانت تشغل ضبّاط القصف. الخطأ الثّاني هو الجهل بالسّياق، حيث استُخدِمتْ نظريّاتٌ خاطئة عن “أنماط الحياة” للتنبُّؤ بتحرّكات المدنيين، ولم ينتبهوا إلى السلوك المرتبط بأحداث متوقَّعة مثل رمضان، وحرِّ الظّهيرة، والمدنيين الذين أمرهم مقاتلو داعش بالتّحرُّك.
(استمع إلى الصّحفيّة “عزمت خان” وهي تناقش كيف أثّرت هذه التحيّزات على توجيهِ الغارات الجويّة الأمريكيّة في المقطع أدناه).
كما كشفتْ صحيفة التّايمز عن تحيِّزٍ وقصورٍ مماثلين في عمليّةِ مراجعةِ الإصابات. لم تُقيَّم الخسائر البشريّة في العديد من البلدات أصلاً لأنّ المراجعين العسكريين خلطوا بينها وبين قرى أخرى تحملُ أسماء مشابهة لم تُقصَف، أو زعموا أنهم لم يتمكّنوا حتى من العثور على البلدات على خرائطهم. مثلاً، تخلّى المراجِعون عن التّحقيق في ادّعاءٍ بمقتل 30 شخصًا في حي “الصّحّة” في الموصل لأنهم لم يتمكنوا من العثور على مكان بهذا الاسم. بحث عنه المراجعون بتهجئة Siha ولم يجدوه، ولكن سرعان ما وجده فريق التّايمز بتهجئة “Sihah” على خرائط غوغل، كما وجدوا تقارير إخبارية بتهجئة “Siha” ببحثٍ بسيطٍ على غوغل. وعلى نحو مماثل، صرفَ مسؤولو البنتاغون النّظرَ في مزاعم بمقتل مدنيين في مكان في العراق يسمّى “الباب الغربي”، لأنهم بحثوا عن موقعين منفصلين هما “الباب” و”الغربي” وفشلوا في العثور عليهما.
بعد فوز السلسلةِ النّاجحة بجائزة البوليتزر، تلقّى الصّحفيون مجاملةً نادرةً من الجيش الأمريكي نفسه، حيث قال النّاطق الإعلاميّ باسم البنتاغون ردًا على تغطيةِ التّايمز لفوزها بالجائزة “لا أستطيع أن أقول إن هذه العمليّة كانت مريحةً لكنني أعتقد أن هذا هو بيت القصيد. ليس من المفترض أن تكون العمليّة مريحة. هذا ما تفعله الصّحافة الحرة في أفضل حالاتها: إنّها تحاسبنا”.
وللاطّلاع على كواليسِ التحقيق، أجرت الشّبكة العالميّة للصّحافة الاستقصائيّة مقابلةً مع عضوين أساسيين في هذا الفريق: “كريستوف كوتل“ – وهو عضو في فريق التّحقيقات المرئيّة في صحيفة التّايمز، عملَ على القصّة الأوليّة التي تناولت غارةً لطائرةٍ مسيَّرة في كابول في أيلول\سبتمبر – والصّحفيّة الرّئيسية في السّلسلة “عزمت خان“، وهي صحفيّةٌ استقصائيّةٌ في مجلة نيويورك تايمز وأستاذة مساعدة في الصّحافة في جامعة كولومبيا. كانت “خان” تستقصي عن ضحايا الغارات الجويّة المدنيّة في الشّرق الأوسط منذ عام 2016، عندما حقّقت هي وعالم اجتماع في 103 غارات جويّة في منطقةٍ أخذوها كعيّنة في شمال العراق، حيث أجريا مقابلاتٍ مع ضبّاط عسكريين وشهود عيان في الميدان، وخلصا إلى أن واحدةً من كلِّ خمس غارات تُعرف باسم “الغارات الدّقيقة” أسفرتْ عن مقتل مدني. وتقول “خان” إن هذا المعدل كان أعلى بإحدى وثلاثين مرة مما زعمه البنتاغون، وأن المعدّل نفسه استمر في “عشرات الآلاف من الغارات” منذ ذلك الحين.
المراجعات الضّعيفة وأدلّة الفيديو القويّة قادت إلى إنجاز السّلسلة
أدرك صحفيوّ التّايمز الإمكانيّات الصّحفيّة للوثائق غير المألوفة. قالت “خان” إنّها فهمت ميّزتين ملفتتين لهذا النّوع من الوثائق بعد حصولها على تقريرٍ واحدٍ فقط لتقييمِ الخسائر المدنيّة من البنتاغون لغارةٍ في شمال العراق سنة 2016: فقد احتوت على كمٍّ غير متوقّعٍ من التّفاصيل الثّريّة حول الاتّصالات العسكريّة ذات العلاقة، لكنّها تضمنت القليل من الدّراسة أو الفهم للمجتمعات التي تُقصَف.
“لقد أذهلني ما قرأتُه في الوثيقة الأولى، وجاء فيها أمورٌ من قبيل “رأينا الناس يفتحون البوّابات”، وهو ما وصفه [الجيش الأمريكي] بأنّه “تكتيك داعشيّ” … قالوا إنّهم صوّروا خلال أشدِّ ساعات النّهار حرّاً، لكنهم لم يروا نساءً ولا وأطفال. وكأنّهم سيكونون في الخارج في ذلك الوقت. أدركتُ أنّه يتعيّن عليّ أن أحصل على المزيد من هذه الوثائق”.
(تشرح “خان” بدايات عملها على الخسائر في صفوف المدنيين في المقطع أدناه).
وهكذا بدأتْ “خان” تتقدّم بطلبات الحصول على المعلومات، ورفعتْ دعوى قضائيّة، للحصول على المزيد من تقييماتِ الضّحايا الصّادرةِ عن البنتاغون. وبحلول سنة 2021 كانت قد جمعت 1,311 تقريرًا مماثلاً. أطلق الفريق السّلسلة في سبتمبر\أيلول الماضي بعد أن عثر “كوتل” وفريقه بالصّدفة على فيديو أمني لأحداث سبقت هجوم الطّائرة المُسيَّرة في كابول في أغسطس\آب الذي أسفر عن مقتل سبعة أطفال. وأظهرت السلسة أن عاملَ الإغاثة المحبوب “زماري أحمدي” قد استُهدف خطأً لأنه حمل حاسوبًا محمولاً لمدير، وقوارير مياه لعائلته، وهو سلوكٌ غير ضارّ اعتبره المحلّلون العسكريون، في غضون دقائق، مؤشرًا على أنّه إرهابي.
ويستذكر “كويتل” أن زملاء “أحمدي” في العمل قالوا “إنّه رجلٌ عاديٌّ، كان يأتي في الصّباح لملء قواريره الكبيرة بالماء”.”لم نسمع ذلك من قبل، وكان الأمر ملفتًا جدًا، لأن الجيش قال إنّ رجلاً شوهِدَ وهو يحمِّلُ حزمًا كبيرة في سيّارةٍ فظنّوا أنها قنبلة. لذلك سألنا عما إذا كان لديهم أي صور لهذه العبوات، وهكذا علمنا أن لديهم كل هذه اللقطات الأمنيّة المذهلة”.
ردًا على القصّة، غيّر البنتاغون ادّعاءه الأولي بأنها كانت “غارة عادلة” وأقرّ بالخطأ، لكنّه ادّعى بعد ذلك أن الهجوم ما يزال مبرَّرًا لأن الأحمدي كان قد أوقف السيّارة قرب “بيتٍ آمن” تابعٍ لداعش. وسرعان ما دحض فريق “كوتل” هذا الادّعاء أيضًا حيث أثبتوا أن “البيت الآمن” كان في الواقع بيت عائلة. تقول “خان”: “أعتقد أن كريستوف وفريق التحقيقات المرئيّة أيقظوا العالم، وأجبروا الكثير من العيون على الالتفات لهذا الموضوع”، وأضافت: “من الصّعب أن تجعل الخسائر في صفوف المدنيين أولويةً تحريريّة”.
وفي الوقت الذي لم تَجْرِ فيه مساءلةٌ عسكرية تُذكر بعد نشر السّلسلة، ولم يكن هنالك إلّا مؤشّراتٌ صغيرةٌ فقط على الإصلاح، ترى “خان” إن من الآثار الدّائمة للمشروع نموذج المنهجيّة التي اتّبعها، ووثائق التّقييم التي فتحها الفريق أمام غيرهم من الصّحفيين ليبحثوا فيها.
تقول “خان”: “لن ترى ذلك التّغيير الذي تريده من مؤسّسةٍ كالجيش بين ليلةٍ وضحاها، ولكنني أتمنّى أن يكون الجمهور أكثر وعيًا بأوجه القُصور هذه. الكثير من الباحثين منكبّون الآن على الوثائق التي نشرناها للتعمّق في أمور مثل قوانين الحرب، حيث لا يتسنّى للصحفيين أن ينظروا في أمرها”. وتشير خان إلى تأثير آخر: “سنرى الآن وسائل الإعلام الإخباريّة أكثر تشكيكًا في مزاعم الدّقّة العسكريّة في المستقبل وستعمل بجدٍّ للكشف عن هذه الخسائر”.
(استمع إلى “خان” تتحدّث عن الطريقة التي ستؤثّر بها سلسلة التّايمز على التحقيقات المستقبلية في خسائر الغارات الجويّة المدنيّة في المقطع أدناه).
وبعد مراجعة ملف “خان”، يقول “كوتل” إن فريقه لاحظ سلسلةً من “الأخطاء الصّغيرة ذات العواقب الوخيمة” في عمليّة صنع القرار العسكريّ، ووجد أدلّةً على وجود مشاكل منهجيّة.
“ما لاحظناه هو أن هنالك بالفعل عدّةُ مُراجِعين عسكريين لديهم المهارات والأدوات – حتى أنهم يدرجون الأدوات التي يستخدمونها في الوثائق: Google Earth. Wikimapia، وكلّ الأدوات التي نستخدمها. لكنني أعتقد أن الأفراد العسكريين يتغيّرون كلّ بضعة أشهر، لذلك لا يوجد اتّساق ، التّدريب غير كافٍ، والمهارات اللغوية غير كافية. يعود الأمر إلى الأفراد ومدى اهتمامهم”.
وتقول “خان” إنها تحقّقت من مزاعم الإصابات من خلال مطابقة إحداثيّات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) من تقارير التّقييم وقارنتها بأدلّة من الأقمار الصناعيّة ويشهادات الشّهود على الأرض، كما رصدتْ عن كثب مقاطع فيديو للغارات نشرتها قوّاتُ التّحالف.
وتقول: “قبل أن أخرج إلى الميدان، كنت أقوم بتحليلِ صورِ الإحداثيات المأخوذة بالأقمار الصناعيّة قبل وبعد الغارة، وكنتُ أضعها في وثيقة”. في البداية ، كنت أستخدم [خدمة صور الأقمار الصناعية] TerraServer. واستخدمت لاحقًا Maxar و Google Earth – بحثًا عن التّغييرات، وما إذا كانت تتطابق مع ما تمّ وصفه في الوثائق”. وأضافت “خان”: “بالنّسبة لمقابلات الشهود، كان علي أنّ أحرصَ ألّا أؤثّر على الشّهود بمعلوماتٍ من الوثائق، لأن الناس قد يميلون إلى التّأكيد فقط”.
قواعدُ بياناتٍ مفيدةٍ للاستقصاء عن الإصابات المدنيّة
وضعتْ منظّماتٌ مثل هيومن رايتس ووتش ومنظّمة العفو الدّوليّة والمجلة الطبية البريطانية The Lancet تقاريرَ مفيدةً عن عدد القتلى المدنيين، وما يسمّى بسجلّات دفعات التّعزية. تقترح “خان” أن يبدأ الصّحفيّون في التّحقيق في إصابات الغارات الجويّة من خلال قواعد بيانات مخصّصة، تعتمد على مصادر متّعددة المستويات – من البيانات العسكريّة العامّة إلى وسائل التواصل الاجتماعي باللغة المحلّيّة وتقارير المنظّمات غير الحكوميّة. نصحتْ “خان” بهذه المصادر تحديدًا:
– Airwars وقد جمعَ هذا المصدرُ، الذي تديره منظّمةٌ غير حكوميّة من المملكة المتّحدة، بيانات منذ عام 2014 عن 60,000 حالة وفاة مدنيّة بالمدفعية والغارات الجويّة في ستّة بلدان، من بينها سوريا والعراق وليبيا والصّومال واليمن. وتشمل قاعدة بياناتها آلاف الوثائق العسكريّة، وتقارير المنظّمات غير الحكوميّة، والأخبار باللغة العربيّة وتقارير وسائل التّواصل الاجتماعي، فضلاً عن تقييمات متدرّجة، وترميزات واضحة حول حدود التّحقُّق من المعلومات ومصادر البروباغندا. “إن Airwars مفيدة بشكلٍ لا يصدّق للصّحفيين على الصعيد الدولي لأنهم لا يدخلون إلى البيانات العسكريّة الأمريكيّة فحسب، بل ينظرون أيضًا إنْ كانت فرنسا، على سبيل المثال، متورّطةً في غارةٍ في هذا اليوم أو ذاك. هنالك معلومات عن شركاء التّحالف مثل أستراليا وهولندا. من الصعب الوصول إلى بعض هذه المناطق، أو عندما لا تعرف أماكن المواقع، لأن الجيش لا يكشف عنها، كانتAirwars مفيدةً حقًا في هذه الحالات.”
– قاعدة بيانات حروب الطائرات المسيَّرة. تركّز قاعدة البيانات هذه، التي جمعها مكتب الصّحافة الاستقصائية (TBIJ)، على الغارات الجويّة للتّحالف في أفغانستان واليمن وباكستان والصومال منذ عام 2010. يوضح خان: “TBIJ رائع لأنه يمكّنك من تنزيل البيانات حول اليمن وأفغانستان وغيرها بسهولة، ويمكنك أن تقرأ منهجيّتهم. لديهم مواقع جغرافيّة تقريبية في قاعدة البيانات، وما اعترفتْ به الجيوش، وما لم تعترف به”.
– Wikimapia رغم أنّها ليست قاعدة بيانات للضّحايا، إلا أن “خان” تقول إنّها أداة خرائط الإنترنت هذه جُمِعت بالاستعانة بمصادر جماعيّة مفيدةٌ إلى حدٍّ ما للعثور على مواقع الإصابات التي تمّ تجاهلها، لأنها تحتوي على بعض أوصاف الحوادث التي ينشئها المجتمع، وغالبًا ما تتضمّن تسمياتٍ وأسماء أماكن بديلةٍ غير مدرجة في الخرائط الرّسميّة أو الغربيّة. وتقترح استخدامه مع ترجمة غوغل، أو مع مدخلات الزّملاء المطّلعين على اللغة المحلّيّة. وتشير “خان” إلى أن “المدخلات تختلف من بلدٍ إلى آخر، فقد استُخدمت ويكيمابيا كثيرًا في العراق، ولكنّها استُخدمت بشكلٍ أقلّ في بلدان أخرى، لكنّها كانت مفيدةً للغاية. أتذكّر أنني كنت أبحث عن تفجير محطّةِ كهرباءٍ فرعيّة في غرب الموصل، ورأيت أن هذه المحطّة الفرعيّة كانت مُعلَّمةً بطريقةٍ معيّنة على ويكيمابيا. وفكّرت: فلأبحث عنها على غوغل مع كلمة ‘الموصل’ و’غارة جويّة’، وظهر هذا الفيديو الكئيب على يوتيوب للحادث، واستطعتُ أن أتحقق منه”.
ومع ذلك، تحذّر “خان” من أنه حتى قواعد البيانات الممتازة القائمة على الوثائق تحتوي على ثغراتٍ كبيرة، بسبب عوامل مثل قلّةِ الوصول إلى الإنترنت، والتّقييمات العسكريّة المغلوطة، والسجلات الحكوميّة المفقودة أو غير الموجودة، وأن العمل الصحفيّ في الميدان ضروريٌّ لتجنُّب النّقص الكبير في العدّ.
تقول خان: “على سبيل المثال، أعتقد حقًا أننّا لم نستوعب حتى الآن حجم الوفيّات النّاجمة عن الغارات الجويّة المدنيّة في أفغانستان، خاصّةً في الجنوب وفي الشرق، في مقاطعتي ننكرهار وكونار. قضيت شهرًا تقريبًا في إحدى القرى في أخذ عيّناتٍ من الحالات، لم يكن لدى أيّ شخصٍ هناك شهادات وفاة بعد سقوط الحكومة. كانت ردّة فعلهم: ما هي شهادات الوفاة؟” لذلك، لن يتم احتساب الوفيّات بدون وثائق رسميّة. اضطررتُ للمرور على كلّ البيوت”.
أدوات لجمع أدلّة ومصادر عن الغارات الجويّة
– VisualPing. استخدمت “خان” هذه الأداة لمراقبة التّغييرات التي تطرأ على المواقع الإلكترونيّة، ولتتبُّع مقاطع فيديو الغارات التي نشرتها قوّات التّحالف أو أزالتها. تقول “خان”: “أعجبتني هذه الأداة حقًا. يمكنك تعديل إعداداتها بسهولة لتنبيهك إلى تغييراتٍ معيّنةٍ في الموقع الذي يهمّك. يمكنني بعد ذلك الرّبط بين أدلتي وبين مقاطع الفيديو التي حمّلها الجيش. كنت أسألهم: “هل شننتم غارةً جويّة على هذا المكان؟” وكانوا يقولون لي أحيانًا “لا.” هكذا تمكّنت من كشفِ أنّهم لم يسجّلوا كلّ إحداثياتهم”.
– Google Earth Pro. تقول “خان” و”كوتل” إن نسخة الحاسوب من هذه الأداة المعروفة والمجّانية للصّور ورسم الخرائط عبر الأقمار الصناعيّة قد حسّنت ميّزاتها الخاصّة بالبحث للشّرق الأوسط تحديدًا، في الأشهر الستّة الماضية. تسمح الأداة الآن بتنزيل صورٍ دقيقة قبل وبعد مشاهد الغارات الجويّة، باستخدام ميّزةِ شريطِ تمرير الفاصل الزمني للأداة.
– قال “كوتل”: الأداة الوحيدة التي أستخدمها كل يوم هي Google Earth. كانت الأداة مهمّةً للغاية لقصّةِ غارةِ الطائرة المسيَّرة في كابول. يستهين بها النّاس قليلاً، معتقدين أنّه يمكنك فقط أن تكبّر الصّورة وحسب، ولكن يمكنك حقًا استخدامها لتنظيم التّسلسل الزّمنيّ والمعلومات على الخريطة، ومشاركة البيانات مع الزّملاء أيضًا”.
– عمليات البحث على LinkedIn ومنتديات الدّردشة العسكريّة. تقول “خان”: “لا ينبغي أن أقدّم هذه النّصيحة، لأنها جزءٌ من عملٍ صحفيٍّ جارٍ، لكنك ستُدهش من عدد الوظائف في مجال الحرب الجويّة التي يُعلن عنها على LinkedIn. لقد قمت ببناء قاعدة بيانات لبعض هذه الوظائف. أحب أن أكتب الرسائل بخط اليد إلى الأشخاص الذين أجدهم هناك ، لكي لا أترك أثرًا رقميًا. وتقول “خان” إنه يجب على الصّحفيين أن يبحثوا عن مستشاري الجيش المدنيين. وتضيف: “أحد مستشاري البنتاغون السّابقين الذين درسوا هذه التقييمات العسكرية وتابعوا المساءلة ظهر علنًا بكلّ شجاعة في تحقيقنا”. تقول “خان” إن هناك طريقة أخرى مفيدة للوصول إلى جهات الاتّصال المحتملة وهي المشاركة في المنتديات العسكريّة على الإنترنت، والبحث في التّعليقات. “مدهشٌ كم سترى أشخاصًا يقولون: “كنتُ موجودًا هناك عندما …”
– تعليم المساهمين في مناطق الحرب تشغيل خدمات الموقع. تقول “خان” إن قيمة التّحقُّق من الكثير من صورِ مواقعِ الغارات الجويّة التي يقدّمها المساهِمون المحلّيون بشجاعة قد تضيع لأن خيارات البيانات الوصفيّة معطَّلة على أجهزتهم. وتقول: “إذا كنت تفكّر بمكان مثل الكونغو، يمكن أن يكون الأمر بسيطا أحيانًا كأن تعلّم النّاس أن يستخدموا الأدوات لتوثيق تجاربهم ومشاركتها معك. قد تعلّم الناس كيفيّة تشغيل إحداثيّات GPS على هواتفهم حتى يتمّ تتبُّع بياناتهم الوصفيّة.”
وعندما سُئلت عما إذا كان أيُّ من ضحايا الحرب الجويّة قد استجاب لأخبار فوزها بجائزة البوليتزر، وللاهتمام المتجدِّد بوفيّات الغارات الجويّة المدنيّة الذي حصدته الجائزة، لم تقدّم “خان” أيّ تبريرٍ أو احتفال. وبدلاً من ذلك، قدّمتْ تذكيرًا مخيفًا بالضّرر الدّائم الذي خلّفه تنظيم «الدّولة الإسلاميّة» وحرب التحالف الذي تقوده الولايات المتّحدة ضدّه.
قالت: “تلقّيتُ رسالةً من أحد النّاجين من هجوم كابول قبل بضعة أيام. لقد فقد ابنته. وقال: “ما زلنا في كابول، ولم يتمّ إجلاؤنا، ولم نحصل على أيّة أموال [تعويضات]”. وقال: “تهانينا على الفوز بهذه الجائزة . كم من المالِ ستأخذين أنت؟”
وأضافت “خان”، بعد صمتٍ طويل: “سماعُ ذلك هو أسوأ جزء في عملي”.
روان فيلب صحفيٌّ عاملٌ مع الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية. كان المراسل الرئيسي لصحيفة Sunday Times الجنوب إفريقية. عمل كمراسل أجنبيّ وتناول الأخبار والسياسة والفساد والصراعات في أكثر من عشرين بلدًا.