تعدُّ منطقةُ الخليج العربي واحدةً من أصعب الأماكن في العالم لممارسة الصّحافة الاستقصائيّة، وهي منطقة مكوّنةٌ من ست دول تطلّ على الخليج العربي تضمّ البحرين والكويت وعمان وقطر والسّعودية والإمارات العربيّة المتّحدة.
السعوديّة واحدةٌ من أسوأ دول العالم في ميدانِ سجنِ الصّحفيين، يحكمها نظامٌ ملكيٌّ مُطلَق، واحتلّت العام الماضي، مع روسيا، المركزَ الثامن في التّقرير السّنوي للجنة حماية الصّحفيين الذي يوثق الاعتداءات على الصّحافة. وجاءت البحرين في المرتبة الرابعة عشرة على نفس القائمة، حيث سجنت ستّة صحفيين.
هناك قلقٌ متزايدٌ أيضًا بشأن أساليب المراقبة التي تستخدمها الحكومات في المنطقة. كانت السّعودية والإمارات من الدّول التي حصلت على برمجيّة التّجسس “بيغاسوس“، والتي استُخدمت لمراقبة عشرات الصّحفيين في جميع أنحاء العالم.
يعيش أكثر من 23 مليون عامل مهاجر في هذه البلدان الستة، حيث تنتشرُ إساءةُ معاملة العمّال على نطاقٍ واسع. دليل الشّبكة الدّوليّة للصّحافة الاستقصائية للإبلاغ عن الهجرة في الخليج، الذي تمّ تحديثه العام الماضي، ذكرَ أن وسائل الإعلام “المحلّية والدّولية على حدٍّ سواء، عانت بشكل عام لتغطية الاتّجار بالبشر والعمل القسريّ في المنطقة عن كثب… بسبب القيود المفروضة على حرّية الصحافة، والمخاوف الأمنية، والتهديد بالاحتجاز أو الترحيل”.
ولكن رغم هذه الصعوبات، تمكّن عددٌ قليلٌ من الصحفيين المحلّيين والأجانب الشّجعان من تغطية مواضيع لم تكن تُمسُّ من قبل.
كانت “كاتي ماكي” من بينهم وهي صحفيّةٌ بريطانيّةٌ مستقلّة أمضتْ خمس سنوات في تغطية أخبار حقوق الإنسان والهجرة إلى جانب مواد متخصصة في “الأعمال” في مجال الطّاقة والرّعاية الصّحّية والتّمويل. حصلت على زمالة من شبكة GIJN سنة 2017 تهدفُ إلى مساعدة الصّحفيين في الخليج على تغطية الاتّجار بالبشر والعمل القسري.
تحدثتْ “مجدولين حسن“، محرّرةُ القسم العربيّ لدى شبكة GIJN، مع “ماكي” عن عملها وأفضل الممارسات التي يمكن أن يتّبعها الصّحفيون عند تغطيةِ العمل القسريّ والاتجار بالبشر في المنطقة.
GIJN: هلّا حدثتِنا عن مواضيع تحقيقاتك، وما الذي كشفتْه عن الاتّجار بالبشر في الشّرق الأوسط؟
“كاتي ماكي”: تتناول تحقيقاتي قضايا حقوق الإنسان التي يواجهها العمّال المهاجرون في الإمارات العربية المتّحدة وبقيّة دول الخليج. كما شملتْ الحقوقَ الإنجابيّة للعاملات المهاجرات، وفضح شبكات الاتّجار بالبشر العابرة للحدود، والاستغلال الجماعي للبحّارة المهاجرين في إيران (حيث أُجبر الكثير منهم على العمل على متن سفنٍ متورّطةٍ في أنشطة تهريبٍ خطيرة)، ومعاملة المهاجرين الأفارقة المحتجزين في السّعودية، وتخلّي أصحاب العمل عن عمّالهم ، وحالات الاختفاء غير المبرّرة لعاملات المنازل.
GIJN: كيف تمكّنتِ من العثور على ضحايا الاتّجار بالبشر وغيرهم من الأشخاص الذين ظهروا في قصصك، وكيف كسبتِ ثقتهم؟
“كاتي ماكي”: مثل أي أي مادّة صحفيّة أخرى، من الضروري بناء شبكةٍ من المصادر والتّحدُّث إليهم قدر الإمكان. شبكةُ مصادري مكوّنة بالأساس من عمّال مهاجرين متضرّرين من القضايا التي أستقصي عنها. أقابلهم شخصيًا كلما أمكن، أو نتكلم بالهاتف أو عبر محادثات واتساب. بالإضافة إلى أنني أتواصل باستمرار مع أشخاص جدد.
المهمُّ لكسب الثّقة هو تقديم نفسك وتوضيح صفتك كصحفيّة بدقّة. الصّحفيّون ليسوا نشطاء أو مناصرين لقضايا حقوق الإنسان، وعليهم توضيحُ ذلك للأشخاص الذين يجرون معهم المقابلة. ليس من المقبول على الإطلاق رفع آمالِ منْ تقابلهم حتى يُخيَّل إليهم أنّ مشكلتهم ستُحلُّ بمجرّد التّحدُّث إليك. أخصّص وقتًا دائمًا لأشرح ماهيّة عملي كصحفيّة ولماذا أريد أن أتحدثّ معهم.
من المهمّ أن نتذكّر أن الشخص الذي نقابله ناجٍ على الأغلب من صدمةٍ نفسيّة. دعهم يتكلّمون براحتهم دون استعجال، ولا تضغط عليهم أبدًا ليخبروك بأشياء يزعجهم الحديث عنها. أحيانًا أقابل عمّالاً مهاجرين في أكثر من محادثة قصيرة، على امتداد عدّة أيّام أو أسابيع، كلما كانوا متفرّغين ومستعدّين للحديث.
GIJN: بعد التّواصل معهم واكتشاف علامات على وقوع استغلال كبير بحقّهم، كيف تخططين لتحقيقك وتمضين فيه؟
“كاتي ماكي”: أحاول أن أتحدّث إلى أكبر عددٍ ممكن من العمّال المهاجرين المتأثّرين بالقضيّة التي أستقصي عنها، لتكوين صورةٍ واضحة للغاية عن الوضع. على سبيل المثال، في مقالٍ كتبتُه لصحيفة واشنطن بوست عن شبكةٍ للاتّجار بالبشر ترسل عاملات فلبينيات إلى سوريا للعمل كخادمات، تحدّثت مع 17 امرأة وفتاة تمّ الاتّجار بهن. وفي تحقيقٍ آخر أجريته لنفس الصّحيفة حول استغلال البحّارة، أجريت مقابلات مع 26 عاملاً تم خداعهم للعمل في إيران مقابل أجرٍ ضئيل أو بدون أجر. كلّما زاد عدد المقابلات، كان ذلك أفضل. أطلب دائما من من أجريت معهم المقابلات الحصول على أدلة وثائقيّة إضافيّة قد تكون لديهم، ومنْ شأنها أن تثبتَ روايتهم. وهذا قد يشمل صورًا أو مقاطع فيديو لأماكن إقامتهم، ومقاطع فيديو لسوء المعاملة التي عانوا منها، أو وثائق سفر أو إيصالات لرسوم التّوظيف غير المشروعة التي دفعوها، وبطاقات العمل، وحسابات منْ اتّجروا بهم على فيسبوك، أو رسائل صوتية، إلخ…
GIJN: هل لديك تقنيةٌ تستخدمينها في المقابلات تساعدك عند التّحقيق في التّفاصيل الحسّاسة والحميمة حول المعاملة التي تلقّاها هؤلاء الأشخاص من أصحاب العمل ووكالات العمل؟
“كاتي ماكي”: عليك الإقرار بالتّراوح الكبير في القوى بين الصّحفيّ وضيف المقابلة، الذي يكون في الغالب في وضعٍ ضعيفٍ للغاية، وحاول التّخفيف من حدّته بطرقٍ معيّنة. دائمًا أبدأُ بإعطاء زمام الحديث للضّيف حتّى يشعر بالارتياح. عادةً ما يكون هنالك نقطة أو نقطتان يرغبون في التّنفيس عنها، لذلك نناقشها في البداية ثم نتفرّع بالحديث انطلاقًا منهما.
أحرصُ على إعلام الضّيف أن بإمكانه التّوقُّف عن الكلام في أيّ لحظة، ولا تضغط عليه ليقول لي أيّ شيء قد يجعله يعيش شعور الصّدمة من جديد. أسأل بعض الأسئلة حول حياتهم في بلادهم، وآمالهم للمستقبل، وأسأل عن أشياءَ منْ شأنها أن تعطيني فكرةً عن طبيعتهم كأشخاص.
يهمّني الحصول على الكثير من التّفاصيل حول الأحداث المختلفة التي يروونها لي، وهذا يساعدني أيضًا على كتابة “مشاهد” عندما أكتب ملفّات شخصيّة عنهم. إذا بدأتُ في طرحِ الكثير من الأسئلة المفصّلة عن أشياء صغيرة وتصاعديّة، فإنني أخبرهم عادةً عن سبب طرحي لهذه الأسئلة، أقول لهم مثلاً: “أحاول أن أستوعبَ هذا” أو “أفهمَ ذاك”. فقط لكي يفهموا السّبب وراء أسئلتي، ولكي لا يشعروا بأنّهم في استجواب.
كما أسألهم كثيرًا عن شعورهم أو ردّ فعلهم أو ما فكّروا به أثناء كلّ حادثٍ من الحوادث التي نتكلّم عنها.
GIJN: ما هي أفضل نصائحك حول التّحقيق في الاتّجار بالبشر العابر للحدود؟
“كاتي ماكي”: حماية المصادر أهمّ شيءٍ بالطبع. إذا تحدّث إليك شخصٌ تمَّ الاتّجار به وهو ما يزال مأسوراً (ما يزال في قبضة تاجر البشر)، فلا تدرج اسمه الكامل أو أيّ شيء قد يدلّ على هويته في تقريرك فهذا قد يعرّضه للخطر.
GIJN: هل واجهتِ أيّ ردٍّ عنيفٍ على تقاريرك في البلدان التي أجريتِ فيها تحقيقاتك عن القضيّة؟
“كاتي ماكي”: عشتُ في الإمارات خمس سنوات، حتّى نهاية العام الماضي، ولم أواجه أيّ ردّ عنيف من السّلطات. لا وجود للصّحافة الحرّة في الإمارات، لكنّني لم أتعرّض لنفس الضّغوط التي تتعرّض لها وسائل الإعلام المحلّية لأن قصصي كانت تُنشر في صحفٍ عالميّة.
كان لدي بعض القواعد التي فرضتُها على نفسي وأعتقد أنها كانت مفيدةً خلال الفترة التي قضيتُها هناك، لم أكتب أبدًا مقالات رأي وامتنعتُ عن التّغريد أكثر من اللازم عن السياسة المحليّة وقضايا حقوق الإنسان، للحفاظ على موضوعيّتي. كنت صحفيّة معتمدة في الإمارات وأحمل تأشيرة العمل الخاصّة بي، حيث شغلت أيضًا وظيفة ضمن طاقم وكنت أغطي قضايا الطّاقة، وبذلك لا يمكن اتّهامي بأنني أعمل هناك دون إذن، وهو أمرٌ تترتّبُ عليه عقوبةٌ كبيرة.
وقبل نشر كلّ قصة، كنت أعطي الحكومات متّسعًا من الوقت – ثلاثة أيام على الأقل – للردّ على أيّ ادعاءات أُثيرت في مادّتي الصّحفيّة. ولم أكن أقترح أفكار قصصي إلا على المنشورات الدّولية الكبرى، وذلك لأنني كنتُ أشعر أن احتمالية الرّد العنيف من الحكومة ستكون أقلّ مما لو كنت أنشر القصص في مواقع أصغر أو في مواقع مستقلّة.
GIJN: بدأتِ في إعداد التّقارير عن قضايا الاتّجار بالبشر والعمل القسريّ في الخليج وفي جميع أنحاء العالم بعد حصولكِ على زمالة GIJN في هذا الموضوع. كيف ساعدك البرنامج على التّعمُّق في هذا الموضوع؟
“كاتي ماكي”: أنجزتُ تقارير عن قضايا الاتّجار بالبشر والعمل القسريّ قبل الزمالة، لكن ورشة GIJN في عمّان – الأردن كانت مفيدةً في استعداداتي للبدء في تقديم تقارير حول هذه المواضيع في الخليج. لقد تعلّمنا هيكلة التّحقيقات والأمن الرقمي، وكانت هذه المواضيع قيّمة. كما ساعدني المرشدون في توضيح الزاوية التي سأتناول من خلالها ما أردتُ العمل عليه وأعطوني الكثير من التّعليقات المفيدة. قبل الزّمالة، أخبرني صحفيّون دوليّون في الخليج أنه من المستحيل الكتابة عن حقوق الإنسان أثناء الإقامة هناك، والرّقابة الذّاتيّة بين الصّحفيين والمحرّرين في الإمارات مشكلةٌ كبيرة. الزمالة جعلتني أدرك أنه يمكنني فعل ذلك بكلّ تأكيد.
هذه القصّة هي الأولى في سلسلةٍ تبحث في الصحافة الاستقصائيّة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا.
مجدولين حسن، محرّرة القسم العربي لدى GIJN، صحفيّة حائزة على عدّة جوائز، عملت مع Global Integrity، و 100Reporters، وشبكة أريج للصّحافة الاستقصائيّة. وكانت مديرة وحدة الصّحافة الاستقصائيّة في الأردن، وكانت أوّل أردنيّة ترفع دعوى على الحكومة الأردنية لحرمانها من حقها في الحصول على المعلومة.