لا بدّ أنّك قد رأيتها: حاويات جمع الملابس التّابعة لجمعيّاتٍ خيريّة أو ماركات أزياء، حيث يمكنك أن تضع بنطالك أو تي شيرتك المُستَعمل. قد يخفّف هذا من إحساسك بالذنب بعد شراء قطعةٍ أخرى من الملابس لستَ بحاجتها حقًا، لأن ملابسك القديمة ذهبت لخدمةِ غايةٍ نبيلة، أليس كذلك؟ ولكن ماذا يحدث حقًا لتلك الملابس المستعملة؟ إلى أين تسافر؟ هل تُباع ولمِنْ تُباع؟ وماذا يحدث للملابس البالية؟
يمكن أن تبدأ هذه القصة قبل ذلك حتّى: قد تبدأ من عند الملابس التي تطلبها على الإنترنت. تصفّحْ عددًا من المواقع، وفي فنلندا على الأقل، يمكنك طلب عدّة فساتين وإعادة الفساتين غير المناسبة. حتى أن الكثير من المتاجر تشجّع المتسوّقين على ذلك. يقولون لك إن منزلك هو غرفة قياسك. ولكن ماذا يحدث للملابس التي نُعيدها؟ هل تُغلَّف من جديد وتُباع، أو تُرمى؟
بدأنا التّحقيق في هذه القصص العامَ الماضي، واتّبعت منهجياتنا مسارًا مماثلاً. سننظر هنا في التّحقيقات واحدًا واحدًا لمعرفة ما اكتشفناه، وكيف حقّقنا في الموضوع، وما هي نصائحنا حول استخدام أجهزة التّتبُّع مثل التي استخدمناها (وهي أجهزة صغيرة يمكنها أن ترسل إشاراتٍ تمكِّنُ الصّحفيين من تتبُّع عنصر لمدةٍ قد تصل إلى سنة) في تحقيقاتك الخاصّة.
تصدير الملابس غير المرغوب بها إلى الخارج
بقلم مينا كنوس-غالان
لم يستغرق الأمر منًا وقتًا طويلاً لنكتشف أن تجارة الملابس المستعملة -التي تبلغ قيمتها مليارات الدّولارات- تجارة سرّيّة بشكل مفاجئ. كان الخبراء الذين تحدثنا إليهم عن هذه التّجارة يعرفون أن معظم الملابس التي يتبرّع بها المستهلكون في بلدان مثل فنلندا تُباع في الخارج، ولكن حتى الخبراء والمنظّمات التي تجمع الملابس لا يعرفون وجهتها النّهائيّة.
تحدّثنا إلى أكبر منظّمةٍ خيريّة في فنلندا ومراكز الفرز الكبيرة في أوروبا، لكنهم لم يسمحوا لكاميراتنا بدخول مرافقهم: لم يسمحوا لا بإجراء المقابلات ولا بالتصوير. مما جعلني أتساءل: ما الذي يجعل العمل المتمحور حول قميصي القديم متكتمًا إلى هذا الحدّ؟ وهنا خطَرتْ ببالنا فكرةُ استخدام علاماتِ التتبُّع التي تستخدمُ نظامَ تحديدِ المواقع (GPS).
كنت قد رأيتُ أجهزةَ تعقُّبٍ تُستخدم في المشاريع الصّحفيّة عن النّفايات الإلكترونيّة، ولكنني لم أرَها في تحقيقاتِ الملابس. كنّا بحاجةٍ إلى أصغرِ أجهزةِ تعقُّبٍ ممكنة، وبطاريات لا يفرغ شحنها سريعًا وتغطية عالمية، لأننا لم نكن نعرف كم ستستمرّ رحلة الملابس، وإلى أين ستذهب.
لم أكن أعرف كيف أحصل على هذه الأجهزة، وعندما اتّصلتُ بالزملاء ذوي الخبرة في قصص البحث باستخدام الأجهزة، وصلتُ إلى طريقٍ مسدود: جميع الأجهزة التي نصحوني بها كانت كبيرةً وثقيلةً للغاية بحيث لا يمكننا أن نخبئها في الملابس.
ولكنني سمعتُ في خريف عام 2019 عن مشروعٍ قام به زملائي في شركة Yle (شركة البث الفنلنديّة) لتتبُّع النّفايات البلاستيكيّة عبر أجهزة تعقُّبٍ صغيرة. كانوا قد اشتروها من شركة فنلنديّة صغيرة. اتصلتُ بهم ووجدتُ ضالّتي! كانوا قد تلقّوا للتّو مجموعةً من الأجهزة الجديدة التي ستكون مثاليّةً لاحتياجاتنا: فهي أجهزةٌ صغيرة تجمعُ بين مُتتبِّعات الـ GPS التي تستخدم تكنولوجيا الأقمار الصناعية، وبين أجهزة تتبُّع GSM، وهو نظام بثٍّ لاسلكيّ يربط الهواتف المحمولة. تعمل هذه الأجهزة ببطاقة سيم وتُستَخدم عادةً للكلاب أو لمساعدة الأشخاص المصابين بمرض الزّهايمر. يمكنك متابعةُ تقدُّمِ أجهزةِ التتبُّع باستخدام تطبيقٍ على هاتفك الذّكي.
في ذلك الشتاء، أخفينا ستّة أجهزة تعقُّبٍ صغيرة في قطع ملابس متعددة: في بنطالِ جينز لزوجي انفرط سحّابه، وسترةٍ عليها بقعٌ لابنتي، وجاكيتٍ مليء بثقوب السّجائر ومغطّى ببقع الزّيت، وسترةٍ خضراء لها قبّعةٌ تفتّقت درزاتها، بالإضافة إلى قطعتين أخريين من الملابس. كانت الملابس في حالةٍ سيّئة للغاية. ثم وضعنا الملابس في حاويات جمع الملابس للجمعيّات الخيريّة وفي الصناديق الي تجمع فيها ماركاتُ أزياءِ الشّارعِ الملابسَ المستعملة وغير المرغوب بها.
قالت الجمعيّات الخيريّة التي تحدثنا إليها أنّها لا تصدّر الملابس البالية. قالت لنا إحدى المنظّمات إنّهم لا يصدّرون الملابس المستعملة إلى أفريقيا. ولكن أجهزة التعقُّب التي أرسلناها رَوَتْ قصّةً أخرى. ويبدو أن قطع الملابس الستّة أرسلت كلّها إلى خارج فنلندا. ذهب بنطال الجينز إلى مركزِ فرزٍ ضخمٍ في ألمانيا ، وانتهى المطاف بمعطفٍ شتويّ في لاتفيا، وسافر جاكيتٌ رجّاليّ إلى ميناء هلسنكي وفقدنا إشارته هناك. أما بالنّسبة للقطع الثّلاثة الأخرى، وصلتْنا إشارةٌ بعد خمسة أشهر من السترة المُفتَّقة من نيجيريا، ووصلت السّترةُ المبقّعةُ بعد ستة أشهر إلى كينيا، وجاءتنا المفاجأة الكبرى بعد عام: وصل الجاكيت المثقَّب والمُبقَّع بالزّيت إلى الباكستان.
لقد دُهشنا من أن بطاريات أجهزة التعقُّب ستصمد ستّة أشهر، ناهيك عن سنة كاملة. ولكننا تعلّمنا بعض الأشياء أثناء عملنا، وهذه نصائحنا:
- للاستمرار لفترة أطول، استخدم GSM، متعقِّب المحمول، بدلاً من نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، الذي يستخدم بيانات الأقمار الصّناعيّة. فالمهم بالنّسبة لنا هو أن يصمد المتعقِّب لأطول فترةٍ ممكنة، وكان هذا أكثر أهمّية من معلومات الموقع الدّقيقة التي تحصل عليها من نظام تحديد المواقع.
- غيِّر الإعدادات بحيث تحصل على إشارات وتنبيهات أقلّ تواترًا، خاصّةً إذا كنت تراقب شيئا سيستغرق وقتًا. هذا سيساعد البطاريّة على الاستمرار لفترةٍ أطول.
- حيثما أمكن، تجنَّب تعريض أجهزة التعقُّب للبرد، فهذا يفرّغ البطّاريّة بشكلٍ أسرع. قلّلنا من هذا بتغليف الأجهزة بالقماش والخياطة حولها داخل الجيوب والدّرزات.
- إذا كنت تستطيع، استخدم عدّة أجهزة لكلّ قطعة في حال توقّف بعضها عن العمل. أرسلَ أحدُ أجهزتنا آخرة إشارة له في ميناء هلسنكي على بعد بضعة أميال من المكان الذي بدأنا فيه: لو كان لدينا جهاز تعقّبٍ إضافيّ لما فقدنا أثر القطعة.
قمنا ببث النّتائج التي توصّلنا إليها مع خدمة البث العامّة الوطنية Yle في فيلمين وثائقيين أحدهما في عام ٢٠٢٠ والأخر في عام ٢٠٢١ كليهما مصحوبين بترجمة للغة الإنجليزية، ونشرنا العديد من القصص المكتوبة حول التّجارة العالميّة في الملابس المستعملة.
ماذا كشف تحقيقنا؟ ثلاثة من قطع الملابس البالية التي تبرعنا بها انتهى بها المطاف خارج أوروبا، على الرّغم من أن الجمعيّات الخيريّة قالت لنا أنها لن ترسلها إلى الخارج. كما أن سلسلة الوسطاء طويلة حتّى أن الجمعيّات الخيريّة الفنلنديّة لا تعرف أين يبيع شركاؤها الأوروبيون الملابس.
انتهت كنزاتنا الملطّخة والممزقة في أفريقيا. لا يمكننا أن نعرف على وجه اليقين ما حدث لها بالضّبط عندما وصلتْ هناك، ولكن عادةً ما تسافر الملابس المستعملة من أوروبا في بالاتٍ إلى أفريقيا حيث يقوم البائعون، ومعظمهم من النساء، بشراء الملابس دون معرفة جودتها. وتُباع الملابس الأفضل حالاً في الأسواق الشعبيّة الضّخمة المخصصة للملابس المستعملة، أما الملابس الرّديئة فيتمّ التخلّص منها.
وبحسب بيانات التّصدير والاستيراد الفنلنديّة، فقد كنّا نعرف أن موزمبيق هي واحدة من البلدان التي تصدّرُ إليها فنلندا المنسوجات المستعملة، لذلك قرّرنا التّصوير هناك.
غالبًا ما تسمّى هذه الملابس المستعملة “ملابس الرّجل الأبيض الميّت”، ورغم أن بيعها في السّوق مهمٌ لرزق هؤلاء الناس، إلا أن أحدًا لن يشتري ملابس مهلهلة. قال لنا البائعون إن جودة الملابس التي يشترونها في هذه البالات تزداد سوءًا.
قد تقول إن بيع الملابس التي يمكن استخدامها إلى أفريقيا هو جزءٌ من اقتصادٍ دائريٍّ مُستدام. ولكن فكرة شحن الملابس الملطّخة والرّثّة من أوروبا أو الولايات المتحدة إلى أفريقيا ليست أخلاقيّة بأيّ حالٍ من الأحوال.
وبحسب منظّمة أوكسفام، فإن أكثر من 70٪ من الملابس المتَبرَّع بها عالميًا ينتهي بها المطاف في أفريقيا. في العديد من البلدان الأفريقيّة، تعرّض سوقُ الملابس الغربيّة المستعملة للانتقاد لتدميره صناعة النّسيج المحلّيّة، بل إن بعض البلدان حظرت استيراد الملابس المستعملة.
وأظهرت النتائج التي توصّلنا إليها أن البلدان الغنيّة ترمي مشكلة النّفايات على القارة الأفريقيّة، حتى وإن كانت الجمعيّات الخيريّة تعدُ بخلاف ذلك. مع الأزياء الرّخيصة التي تُغرق العالم، أصبحت نفاياتُ النّسيج مشكلةً عالميّةً ضخمة. يرمي الفنلنديّون ما يقرب من 70 مليون كيلوغرام من المنسوجات سنويًا، وهو ما يكفي لملء 800 حمام سباحة. وهذا فقط في فنلندا — كلّ عام.
أرَدْنا أن يُظهر تحقيقُنا تأثيرَ الأزياء السّريعة، أو الرّخيصة، على الطّرف الآخر من سلسلة التّوريد. الملابس التي غالبًا ما تأتي من مصانع في آسيا ظروف العمل فيها سيّئة، تسافرُ إلى الغرب، وغالبًا ما تجعل الأسعارُ المنخفضة هذه القطع “قابلة للرمي”، وعندما تصبح الملابس غير مرغوبة تسافر مرّةً أخرى، حول العالم — هذه المرة كملابس مستعملة أو كنفايات.
احتسبَ العلماءُ الذين قابلناهم البصمةَ الكربونيّة للملابس المستعملة التي تصدّرها فنلندا في عامٍ واحد ووجدوا أنها تعادل البصمة الكربونّية لسفرِ اثني عشر ألف شخص بالطّائرة من فنلندا إلى لندن. وتأتي الآثار المترتّبة على هذه البصمة الكربونيّة الضّخمة في وقتٍ تواجه فيه صناعةُ الأزياء تصفية حسابٍ لانبعاثات الكربون والأصباغ والسّموم واستخدام المياه.
نحن بحاجة إلى التّحقيق في قطاع الملابس على امتداد سلسلة التّوريد، لا أن نحقق فقط في نقطة البداية حيث يتمّ إنتاج الملابس، بل يجب أن نحقق أيضًا في نقطة النهاية لنرى ما يحدث حقًا لملابسنا المستعملة. كما نحتاج إلى مزيد من الشفافيّة من قطاع الملابس حتى يتمكّن المستهلكون من رؤية الصّورة الكاملة وعواقب شراء الأزياء السّريعة.
إن وضع كيسٍ من الملابس القديمة في صندوق الجمعيّة الخيريّة ليس نهاية القصّة – حتى لو كانت تُشعرنا بأننا نحُسن صنعًا – بل هو في الواقع بداية رحلةٍ جديدة، غالبًا إلى الجانب الآخر من العالم.
ماذا يحدث عندما تعيد الملابس الجديدة؟
بقلم جيسيكا ستولزمان
ازداد التّسوُّق عبر الإنترنت ازديادًا هائلًا خلال الجائحة. وقد أتاح البيع بالتجزئة عبر الإنترنت وسيلةً للمتاجر للحفاظ على الإيرادات في العديد من البلدان التي أُغلقت فيها المتاجر أو نُصِح فيها النّاس بالبقاء في منازلهم لاحتواء معدّلات العدوى.
ولكن حتى قبل تفشّي الوباء، أدّى التّحوُّل إلى الشراء عبر الإنترنت إلى زيادة كبيرةٍ في السِّلع المُرتَجَعة. وبحسب إحصاءات شركة البريد الفنلنديّة الرئيسيّة، يتمّ إرجاع قطعةٍ بالمتوسِّط من كلِّ ثلاث قطعٍ تُطلَب عبر الإنترنت في فنلندا. عندما يتعلّق الأمر بالموضة السّريعة (الملابس التي يتمّ صنعها بسرعة وتوفيرها بأسعار زهيدة للمستهلكين) يعتقد البعض أن الرّقم يمكن أن يكون أعلى من ذلك، أي أن يتمّ إرجاع قطعةٍ من كل قطعتين.
استوحيتُ الفكرة من تحقيقٍ مماثل أعدّه موقع Breakit السويديّ، وقرّرتُ التّحقيق في ما يحدث للملابس التي يتمّ شراؤها عبر الإنترنت وإعادتها. اشتريتُ نفس أجهزة التتبُّع، ولكن نظراً لأنني كنت أعرفُ أن الملابس ستنتقل بسرعة، استخدمتُ بيانات الأقمار الصناعية من GPS جهازِ التّعقُّب بدلاً من معلومات GSM. أردتُ أن يبلغني الجهاز بموقعه مرّة كلّ ساعتين من أجل تحديد المسار الدّقيق الذي تسلكه هذه الملابس “غير المرغوب بها”.
اشتريتُ خمس قطعٍ من متاجر الملابس الأكثر شعبيّة على الإنترنت وأردعتُ كلّ قطعةٍ مع جهاز تعقُّب. في غضون أيامٍ قليلة، كانت كل أجهزة التعقّب التي أرسلناها تقريبًا قد وصلت مستودعاتٍ مختلفة في السّويد.
ولكن لم يكن هنالك جوابٌ بعد حول ما حدث للملابس. هل تمّ بيعها مرّة أخرى، أم أنها أُتلِفت؟ أكّدت لي الشّركات أن الحالات التي يتعذّر فيها بيع الملابس مرة أخرى نادرةٌ جداً، لكنني أردت أن أعرف حقيقة الأمر.
ولسوء الحظ، تمّ تعطيل بعض أجهزة التعقُّب يدويًا، في حين نفدت بطارية البعض الآخر في المستودع. كنت قد اخترت إجراء تحقيقٍ مفتوح، مما يعني أن أجهزة التتبُّع لم تكن مخفيّة. أرسلتُ كلّ جهازٍ مع رسالةٍ إلى منْ يجده، ووضعتُ عنوانَ بريدي الإلكتروني حتى يتمكّنوا من التّواصل معي.
ربما كنا سنتمكّن من التعقُّب لفترةٍ أطول لو أننا وجدنا أجهزة تعقُّبٍ أصغر ببطاريات أفضل، ولكن لتجنُّب انتهاك خصوصيّة المستهلك، لم نكن نريد في نهاية المطاف أن نتتبّع الزّبون إذا تمّ بيع الملابس مرّةً أخرى.
ولكن الحظّ حالفنا حينها. لفتَ انتباهي أحدُ أجهزة التعقُّب: انتهى به المطاف بالقرب من العاصمة الإستونيّة تالين. أعطاني نظام تحديد المواقع الموقع الدّقيق لهذه القطعة من الملابس، لهذا سافرتُ إلى تالين حيث وجدتُ شركةً متخصّصةً في ما يسمُى “إدارة الإرجاع”، وهو نمط أعمالٍ آخذ في الازدهار في بلدان مثل إستونيا وبولندا.
اكتشفتُ أن الشركة كانت تُخرج الملابس المرتجعة من أغلفتها وتفحصها، لتقوم بأشياء كإزالة الشّعر والوبر عنها، لتعود الملابس إلى حالةٍ ممتازةٍ ليتسنّى لهم بيعها مرّةً أخرى. ووفقًا للمدير، الذي قابلناه، فإن الكثير من قطع الملابس التي يتلقّونها قد استُخدِمت من قِبل الزّبائن، ويمكنهم معرفة ذلك من الرّائحة أو البقع على الملابس.
ولكن ما اكتشفتُه في تالين، من التحدُّث إلى النّساء اللواتي يُعدن ترتيب الملابس ومديرهن، هو أن القطع التي تقلّ قيمتها عن 60 يورو (70 دولارًا أمريكيًا) لا تعتبر جديرة بالإنقاذ. لذلك يتمُّ بيعها أو التبرُّع بها لشركةٍ أخرى أو لجمعية خيرية. هذه الشّركات أو الجمعيّات الخيريّة تُتلفها أو تبيعها خارج أوروبا.
واحدة من الجمعيّات الخيرية التي تتلقى هذه الملابس هي جيش الإنقاذ. عندما عُدتُ من إستونيا، زرتُ أحد مستودعات جيش الإنقاذ في توركو، في جنوب غرب فنلندا، على بُعد بضع مئات من الكيلومترات عبر بحر البلطيق من تالين.
كان المستودع هناك مليئًا بالصّناديق المملوءة بالملابس المُرتَجعة التي كانت في طريقها إلى إربيل في شمال العراق: جزءٌ من أطنان الملابس المُرتَجعة الكثيرة التي تُشحَنُ من أوروبا كلّ عام.
لم أتمكّن من السّفر إلى العراق بسبب الوباء، فاتّصلت بمصورٍ في إربيل عثرَ على ملابس شحنها جيش الإنقاذ من فنلندا. تبيعُ الجمعيةُ الخيريّة الملابسَ أولاً لشركةٍ محلّيّة، ثمّ تعيد بيعها للمشترين في متاجر محلّيّة تحمل اسم أوسلو وستوكهولم. ثم تُباع الملابس هناك مع القطع التي انتهى موسمها أو التي لم تُبَع في دوراتِ الموضة السّابقة. قال لنا أصحاب المحل إن بعض قطع الملابس فقط تستحقّ البيع، وأن الباقي ينتهي به المطاف في مكبٍّ للنّفايات خارج إربيل.
ما الذي توصلّنا إليه بهذا التّحقيق؟ نشرنا قصّةً على الإنترنت و فيلمًا وثائقيًا عن النتائج التي توصّلنا إليها، أظهرَ كيف أن بعض قطع الملابس التي نشتريها عبر الإنترنت ونرجعها – حتى القطع التي قد تكون في حالةٍ ممتازة وغير مستخدَمة – قد ينتهي بها المطاف في مكبٍّ للنّفايات في قارّةٍ أخرى. إعادةُ قطعةٍ إلى متجر أو إلى مستهلك جديد غير مُربحٍ للكثير من الشركات من الناحية الاقتصاديّة. ونحن نعرف أنّه قد تمّ بناءُ سلسلةٍ لوجستيّة هائلة ومعقّدة حول هذا الموضوع.
اكتشفنا أيضًا أنه من الظاهر أن أحدًا لا يتحمّل المسؤولية عندما تسافر الملابس خارج أوروبا: فالملابس تنتقلُ من وسيطٍ إلى وسيط، ولا يبدو أن أحدًا يعرف الوجهة النهائيّة. في الواقع، تُجبر شركاتُ ملابسٍ كثيرة الجمعيّاتِ الخيرية أو الشّركات التي تعمل معها على أخذ الملابس خارج منطقةِ سوقها لأسباب تنافسيّة. ولكن بالطبع، هذا يُطيل المسافة المقطوعة – والبصمة الكربونيّة – لذلك المايوه المُهمَل أو لذلك الجينز الصّغير.
كما تعلّمنا بعض الأمور حول استخدام علامات التتبُّع أثناء هذا المشروع. كانت المشكلة الأهم هي العثور على أجهزةِ تتبُّعٍ صغيرة بما يكفي، وأن تكون بطاريّتها جيدة كذلك. لم تكن أجهزة التعقُّب التي استخدمناها الخيار الأمثل، ولم نتمكن من تتبُّعِ قطعةٍ معيّنة لحين وصولها إلى المكبّ في العراق.
ومع ذلك، فقد ساعدتنا أجهزة التّعقُّب في كشفِ مسارِ إحدى القطع التي أرجعتُها، ومن هناك اكتشفنا الطريق المتعرِّج لبعض ملابس فنلندا المُرتَجعة. وهذا بدوره ساعدنا على حساب البصمة الكربونيّة، كما دلّنا على شبكة الخدمات اللوجستيّة الواسعة التي تعتني بالملابس غير المرغوب بها.
تمكّنّا من حساب البصمة الكربونيّة للملابس المُرتجعة من خلال العمل مع عالِمٍ في معهد البيئة الفنلندي. وقد حُسِبَ هذا الرقم باستخدام ما يسمّى نهجَ تقييمِ دورةِ الحياة: وهذا يعطي قيمةً للانبعاثات المتّصلة بالنّقل على أساس المسافة التي يقطعها الصنف برًا أو بحرًا، ووزنه، ويضرب ذلك بمتوسط الانبعاثات لوسائل النّقل تلك.
الخلاصة الواقعيّة: عندما تُضيف البصمة الكربونيّة لجميع الملابس المُرتَجعة في أوروبا على مدار عامٍ واحد، فإنها تعادل البصمة الكربونيّة لمدينة كبرى خلال نفس الفترة الزمنيّة.
والأسوأ هو أن معظم عمليات الإرجاع هذه غير ضروريّة. وإذا عرف النّاس بما يمكن أن يحدث للملابس التي يعيدونها والتكلفة البيئيّة النّاجمة عنها، أعتقد أنهم قد يتصرّفون بشكل مختلف تمامًا. على الأقل سأفكّر مرتين قبل استخدام بيتي كغرفة قياس، لتجنُّب إنتاج المزيد من القمامة على الجانب الآخر من العالم.
ملاحظة المحرر: ستتحدث الكاتبتان في المؤتمر العالمي للصّحافة الاستقصائيّة عن عملهما في التحقيق في سلاسل توريد الملابس. يمكنك الاشتراك لحضور المؤتمر عبر الإنترنت، الذي سيُعقد بين 1-5 نوفمبر، بالضغط هنا.
مينا كنوس-غالان مراسلة في فريق MOT الاستقصائيّ في شركة الإذاعة الفنلندية، Yle. حازت تغطياتها لغسيل الأموال ومصانع الملابس في بنغلاديش والفساد على عدّة جوائز. شاركت في مشاريع متعدّدة عابرة للحدود، وألّفت كتاب “مشروع بنما”عن أوراق بنما الحائزة على جائزة البوليتزر.
جيسيكا شتولتزمان صحفيّة استقصائيّة حائزة على عدّة جوائز، تعمل في القسم النّاطق باللغة السويديّة في شركة الإذاعة الفنلنديّة Yle. عملت سابقًا كمراسلة إخبارية في الخارج. قبل بضع سنوات، انتقلت إلى الصّحافة الاستقصائيّة، وغطت مواضيع مثل قضايا المتحوّلين جنسيًا، وظروف العمل، والصراعات على الأراضي في البرازيل.