خلال العام الماضي، أُتيحت لي فرصةُ إجراء المقابلات مع عشراتِ الصّحفيين الاستقصائيين حول أدواتهم وتقنياتهم المفضّلة. في سلسلة من القصص، أظهرتْ نصائحهم لجمهورنا العالميّ من الصّحفيين أن هنالك الكثير من تكتيكاتِ كشف الفضائح التي يمكن أن تساعد في تقاريرهم، وأن الأدوات الرّقميّة الفعّالة الجديدة تظهر باستمرار ويمكن أن تساعدهم في البحث. ولكن هؤلاء الخبراء في كشف الفضائح أشاروا مراراً إلى قرابة عشرين تقنية تساعدهم في كلّ تحقيقاتها تقريبًا، وتثيرُ فعاليتُها إعجابَهم دائمًا.
معظم هذه التّقنيات لا يتطلّب أيّ تكلفةٍ أو مهارات في استخدام الحاسوب، وبعضها يتطلّبُ أبسطَ التّعديلات لتمكين الصّحفيين الاستقصائيين من الوصول إلى مصادر صعبة أو العثور على الأدلّة بعيدة المنال.
في الجزء الثاني من هذه المادّة، سوف أذكر بعض الأدوات التي يفضّلها الكثير من الصّحفيين. ولكن هنا، في الجزء الأول، سأدرج التكتيكات والأساليب التي يتغنّى بها كبار الصّحفيين الاستقصائيين.
عند الذهاب للحديث مع الغرباء في منازلهم، تأبَّط ملفًا. نظرًا للمشكلة الشّائعة التي يواجهها الصّحفيون الاستقصائيون عندما يصلون إلى منزلِ مصدرٍ محتمل دون مقدّمات، ويُعاملون معاملةَ الباعة المتجوّلين. قد يُغلق الباب في وجهك في ثوانٍ، لذلك وجد مراسل صحيفة نيويورك تايمز “روس بويتنر” تكتيكًا لإبقاء الباب مفتوحًا لفترة كافية لتقترحَ على المصدر إجراءَ مقابلة. نصيحته أن تصل إلى باب البيت حاملاً ملفًا سميكًا تحت ذراعك. وأوضح “بويتنر” – الذي استخدم هذا التكتيك عندما كشف قصّته الحائزة على جائزة البوليتزر عن احتيالِ ترامب الضّريبيّ – أن مجرد رؤيةَ الملف السّميك يوحي بأن الصحفيّ يعرف سلفًا معظم الحقائق، ويمكن أن يقلل من خوف المصدر من أنه قد يكون مسؤولًا عن المزاعم الأساسية في القصّة. وأشار إلى أنه من الممكن ملء الملف بأوراق فارغة، أو البريد غير المهم، أو أي شيء، طالما أن رؤيته سهلة.
مشّط خرائط غوغل بحثًا عن أدلة من كاميرات المراقبة. كبِّر خرائط غوغل حتى تظهر أسماء أيّ متاجر قريبة، وعند الضّرورة، اتّصل بمدراء تلك المتاجر لطلب أي فيديو من كاميرات المراقبة قد يعرض جزءًا من الحدث. إذا رفضوا، أرسل لهم نسخةً من قصتك الأولى عن الحَدَث – ثم اطلب الفيديوهات مرّةً أخرى. يقول الصّحفيون إن مدراء المتاجر غالبًا ما يغيّرون رأيهم بعد أن يعرفوا نواياك.
محّص أكثر باستخدام مشغِّلات البحث البسيطة. يمكن القول إن إحدى طرق البحث الرّقميّة التي يستخدمها الصّحفيون الاستقصائيون الرائدون كل يوم هي الأقوى أيضًا: المشغلات المنطقية. يعرف معظم مستخدمي غوغل كيفيّة تضييق نطاق البحث باستخدام علامات الاقتباس حول الكلمات الرّئيسيّة، وكيفيّة استخدام المصطلحات المكتوبة بالأحرف الكبيرة مثل “OR” (أو) لإرشاد محرّك البحث إلى النظر في البدائل. ولكن المشغلات الأساسيّة الأخرى، الموجودة منذ سنوات، تُستخدَم الآن بشكلٍ روتيني من قبل الصّحفيين:
– “Site:” لتضييق نطاق البحث، مثل “site:UK” لتقييد البحث بالمملكة المتّحدة، أو “site:https://gijn.org” لتقييده بعمليات البحث في موقعٍ معيّن.
– “Ext:” للبحث عن الوثائق بتنسيقات PDF وCSV وDOC.
– “AROUND(*)” بالحروف الكبيرة بين كلمتين رئيسيتين، للبحث عن مستنداتٍ تشتبه بأن مصطلحين قد يظهران فيها في نفس الفقرة. يمكنك تجربة الأرقام لإضافتها بين قوسين، لتخمين العدد الإجماليّ للكلمات التي قد تظهر بين الكلمات الرّئيسيّة — ربما 17 للجملة، أو سبعة للعنوان الرّئيسي.
– “حيلة الاستبعاد”. إذا وجدتَ مقطع فيديو أو صورة غامضة على منصّةٍ من منصّات التّواصل الاجتماعي البارزة، فابحث إنْ كان قد نُشر في مكان آخر عن طريق لصق الرابط على غوغل واستبعاد تلك المنصّة بعلامة ناقص، مثل “-site:youtube.com” أو “-site:Instagram.com”. يمكن أن تستبعدَ إشارةُ الطّرحِ أيَّ مصطلحٍ أيضًا، أو يمكن استخدامها للبحث عن إشارات إلى شخصٍ ما قبل دوره الجديد.
اتبّع عقليّةً حرفيّة في بحثك. على سبيل المثال، للعثور على مقابلة لشخصٍ ما، جرّب البحث عن عبارةٍ قد تظهر في المقابلة – مثل “يقول فلان” أو “قال فلان” – بدلاً من البحث عن كلمة مثل “مقابلة”، وهي كلمةٌ لن ترِدَ على الأغلب في النّصّ الأصلي. للبحث عن خريطة، استخدمْ كلمةً مفتاحيّة إلى جانب كلمةٍ تظهر عادةً على الخرائط — مثل “مقياس”، بدلاً من “خريطة”.
استخدام “حيلة الرّمز الجغرافي” للعثور على الشّهود والأدلّة في الوقت الحقيقي. ويصفُ العديد من الصحفيين هذه الطّريقة بأنها ستغيّر قواعد اللعبة – وخاصة بالنّسبة للتّحقيقات السّريعة. اكتب الموقع أو العنوان التّقريبي لحدثٍ ما في خرائط غوغل، وانقر بزر الماوس الأيمن، وانسخ خط الطّول وخط العرض الظّاهران تحت خيار “What’s here” (ماذا يوجد هنا؟). انتقل إلى TweetDeck، اكتب “geocode:” (اكتب النّقطتين) وألصقْ هذا الرّمز إلى جواره – ولكن تأكّد من إزالة أي مسافات أو شرطات. وأخيرًا، ما عليك سوى إضافة فاصلة ونطاق البحث – مثلاً: لمسافة ميل واحد – “, 1mi” وستصل إلى كل التّغريدات وصور وسائل التواصل الاجتماعي من داخل هذا النطاق. يمكنك تضييق نطاق البحث بشكلٍ أكبر باستخدام كلمات مفتاحيّة، مثل “مداهمة” أو “رجال شرطة”، للعثور على مشاركات في هذا الموقع الجغرافيّ حيث يشير المستخدمون إلى موضوعٍ شائع.
اعتمد على أدوات التّشفير المجّانيّة سهلةِ الاستخدام. لا تتأخر في تسجيل حساب على Protonmail لرسائل البريد الإلكتروني المشفّرة، وتسجيل حساب Signal للرّسائل النصّية الآمنة. استخدم مدير كلمات سرّ مجّاني يثق به الصّحفيون، مثل LastPass، الذي سيولّد كلمات مرور آمنة تحت كلمة مرور رئيسيّة واحدة تختارها أنت. استخدم متصفحًا محميًا جيدًا مثل فايرفوكس، واحذف المتصفّحات غير المدعومة مثل إنترنت إكسبلورر.
إذا لم تكن بلدك قد أقرّت قانونًا للحصول على المعلومات، قم بتقديم طلبات الحصول على المعلومات في البلدان التي أقرّت مثل هذه القوانين – خاصّةً في التحقيقات المتعلقّة بالأمن والمراقبة. نظرًا لتعدُّد جنسياتِ شركاتِ تكنولوجيا المراقبة الكبرى – وانتشار التّعاون الأمني بين الحكومات – يقول “بيريل ليبتون” من مؤسسة Electronic Frontier إن المراسلين في أي مكان يمكنهم العثور على أدلة حول برامج التّجسُّس المحلّيّة من خلال البحث في السجلّات العامّة في البلدان التي تتوفّر فيها قوانين حق الحصول على المعلومات. اطّلع على دليل GIJN لاستخدام قوانين حق الحصول على المعلومات في جميع أنحاء العالم،بما في ذلك الجدول الذي يذكر الأماكن التي تسمح بتقديم طلبات المعلومات الأجنبية. انظر أيضًا دليل منظمة الصحفيين والمحررين الاستقصائيين لتقديم طلبات المعلومات عبر الحدود. هنالك تكتيك مفضّلٌ آخر للكشف عن المراقبة هو الإشارة إلى التحرّكات الدّوليّة للشّركات التي تقول إنها تبيع برامج التجسس الخاصة بها إلى الدّول القوميّة فقط. وذكرت جماعات تبحث في حقوق الإنسان إن مجموعة NSO التي تتخذ من إسرائيل مقراً لها، وشركة Circles التي تتخذ من بلغاريا مقرًا لها، وCellebrite شركاتٌ من هذا النّوع .
استخدم مصادر ومجموعات بيانات بديلة لقياس وفيات كوفيد-19. من الصّومال إلى البيرو،استخدم الصّحفيون أساليب مبتكرة للتّحقيق في المزاعم حول أعداد الوفيات الناجمة عن الجائحة التي أدلتْ بها السّلطات الوطنيّة والإقليميّة، ووجدوا حالات نقصٍ هائلة في الأعداد في معظم الحالات. وشملت المصادرُ البديلة سائقي سيارات الإسعاف، وتسجيلات خدمات الطوارئ، وحفّاري القبور، وشركات حرق الجثث، وبوابات البيانات المفتوحة المحلّية. كما قارنت عدّةُ غرفِ أخبارٍ بين مجموع الوفيات – التي تسمّى أحيانا “الوفيات الناجمة عن جميع الأسباب” – قارنتها مع الفترات السّابقة لتحديد الوفيّات الزّائدة والمتزامنة مع الوباء. أما جهود جمع البيانات من إعلانات النّعي كانت أقل فعالية – ولكن الصّور الساتلية للمقابر الجماعيّة الجديدة قدّمتْ أدلّةً قويّة على حدوث طفرات في أعداد الوفيات.
اطلب من الزملاء الأجانب الاتّصال بالمسؤولين الحكوميين المتردّدين. لا نعرف لماذا ينجح هذا الأسلوب، لكن الصحفيين العاملين في منصّات مختلفة قالوا لـ GIJN إن كبار المسؤولين الحكوميين يميلون إلى التحدُّث عن القضايا الحسّاسة عندما تأتي المكالمة من صحفيٍّ منْ خارج البلاد. وفي استراتيجيةٍ منسّقةٍ وناجحة لتحقيق أُجري مؤخرا، اتّصل مراسلٌ مقيم في البيرو يعمل في غرفة الأخبار غير الربحية OjoPúblico -عضو في شبكة GIJN- بالسّلطات في تشيلي؛ واتّصل زميلٌ له في تشيلي بالسّلطات في الأرجنتين؛ واتّصل زميلهم في الأرجنتين بالسّلطات في المكسيك. وفي الوقت نفسه، قال “ويل فيتزجيبون”، المقيم في واشنطن العاصمة في الاتّحاد الدّولي للصحفيين الاستقصائيين، إن المكالمات العابرة للحدود أصبحت الآن أسلوبًا شائع الاستخدام في الاتّحاد. وقال إن سياسيًا من توغو تلقّى مكالمته – بعد أن رفض مكالماتٍ من زملائه الصّحفيين في توغو – عندما ظهر رمز الاتّصال الهاتفي “202” الخاص بواشنطن على الهاتف. ظنّ المسؤول خاطئًا أن شخصًا من سفارة توغو في الولايات المتحدة كان على الخط.
إذا كنت تعيش في ظلّ نظامٍ استبداديّ، فمارس الصحافة وكأنّك تعيش في ظلّ نظامٍ ديمقراطيّ. يقدّم المحرّرون البارزون بعض النّصائح التي قد تبدو جذريّةً لزملائهم الصّحفيين في البلدان الاستبدادية: اعمل وقم بعملك الصحفيّ كما لو أن مؤسسات العدالة والمساءلة تعمل في مجتمعك. في قمة RightsCon في مايو، أشار محرر التّحقيقات المخضرم “نيك داوز” إلى الشجاعة التي يتطلّبها هذا التكتيك، لكنه لخّص فائدته الأساسيّة بهذه الطّريقة: إحدى الطرق التي تُبقي الخيال الديمقراطي حيًا هي التصرُّف… كما لو أن النظام ديمقراطيّ”. ويفيد المحررون بأن هذه العقليّة تَقِي من الرّقابة الذّاتيّة، وفي الوقت نفسه تُبقي مستوى المساءلة مرتفعًا لدى الجماهير المضطَهدة.
ادفع الأشخاص المنعزلين للكلام عن طريق زعزعة كبريائهم. تبيّن أن المسيئين قد يحرّكهم سخط الصّالحين – ويمكن استدراج الأشخاص الذين يرفضون التعليق إلى الرّدّ باستخدام هذا التكتيك: هاجِم الشّيء الوحيد الذي يعرف الشخص أنّه لم يخطئ به. تجربتي الخاصة مع هذا النهج: أثناء عملي مع صحيفة “صنداي تايمز” في جنوب أفريقيا، لم أتمكّن من الحصول على مقابلةٍ مع مقاولٍ حكوميّ بنى منازل عامّة للفقراء دون المستوى وانهار الكثير منها في عاصفةٍ خفيفة، مما تسبّب في وقوع إصابات خطيرة. اكتشف مفتّش بناء استأجرناه اثنتي عشرة مشكلة مهمّة في موادّ البناء، ولكنه لاحظ أن الطوب نفسه كان ممتازًا. في طلب المقابلة الأخير للمقاول، قلت له “هناك أسئلة حول جودة الطوب الذي استخدمته”. كان الرجل ساخطًا لدرجة أنه وافق على المقابلة، بل وقف لتُلتقطَ له صورة أمام طوبه الجيّد، المُستَخدم في منزلٍ مُنهار.
ثقْ بالاتفاقيات المعقودة مع منافسيك الإعلاميين. تَبيَّنَ وبالدليل أن العمل المشتَرك يسرّع التغيير – ولا يخرّب – التحقيقات المعقَّدة. من روسيا إلى تشيلي، يذكر محررو التّحقيقات باستمرار أن التّعاون العابر للحدود و”المشاركة الجذرية” تعزز قوة البحث وتزيد من تأثير التحقيقات الكبرى. وفي الوقت نفسه، يقولون إن الأدلة المُستقاة من العديد من المشاريع تُظهر أن غرف الأخبار الاستقصائيّة يمكن أن تأتمن بعضها على المعلومات الحسّاسة والمواعيد النّهائيّة المشتركة. ويصرّ المحرّرون على أن حالات خرق المنصّات الإعلاميّة لاتّفاقيّات الموعد النّهائي وسرقة السّبق الصّحفيّ من شركائهم حالاتٌ نادرة الآن لدرجة أنها لا تستحقّ القلق بشأنها. ويبين أحد مشاريع المشاركة الجذرية من جمهورية الكونغو الديمقراطية كيف يمكن لهذه الاستراتيجية أن تؤتي ثمارها: فقد تمّ تعزيز جانب الإبلاغ في المشروع بمهاراتٍ لغويّة مميزة من غرفةِ أخبار، ومهاراتٍ في البيانات من غرفةِ أخبارٍ أخرى، وقدرة للوصول إلى المصادر من شريك ثالث، وبالشجاعة المطلقة للصّحفيين المحليين في الميدان. تعززت ثقةُ الجمهور وتأثير العمل الصحفيّ من خلال تعزيز الحقائق والتّرويج المتبادل بين المنصّات الإعلاميّة، وتم تعزيز السّلامة حيث تمكن الصحفيون المحليون المعرّضون للخطر في جمهورية الكونغو الديمقراطية من “الإبلاغ عن العمل الصحفي” مباشرةً بعد الموعد النّهائي المشترك للنّشر.
روان فيليب صحفيٌّ عاملٌ مع الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية. كان المراسل الرئيسي لصحيفة Sunday Times الجنوب إفريقية. عمل كمراسل أجنبيّ وتناول الأخبار والسياسة والفساد والصراعات في أكثر من عشرين بلدًا.