التحلّي بالتّعاطف عند الكتابة عن النازحين

Print More

الصورة : Shutterstock

تقول “جيسيكا غوداو”، مؤلّفةُ كتابِ “بعد الحدود الأخيرة: عائلتان وقصة اللجوء في أميركا”:  “إننا نعيش قرنًا من النزوح”. ولأننا كذلك، على الصّحفيين أن يتعلّموا كيف يسردون قصص النّازحين بإعادة النّظر في بعض القِيَم الصّحفيّة الرّاسخة والتّحلّي بالتّعاطف.

لنتأمل هنا الشّخصيّات الرّئيسيّة في كتابها: “مو ناو”، امرأةٌ مسيحيّة من ميانمار، و”حسناء”، امرأةٌ مسلمة من سوريا. الاسمان مستعاران، وكذلك “أمينة”، المترجمة السّوريّة الأمريكيّة التي عملت مع “غوداو” لسرد قصّة “حسناء”. اتّفقت “غوداو” ومحرروها على حماية هويات النساء، حتى عندما هذا يقتضي التّجاوز عن أجزاء مؤثّرة من قصصهن، لأن رواية هذه الأجزاء قد تعُرِّض الأسّر التي تركنها وراءهن للخطر.

قالت لي “غوداو”: “قد يكون التّعاطف أسمى قيمة صحفية لدي”.

الصورة : من “جيسيكا غوداو”

أثبت عملها قيمته حيث فاز كتابها “بعد الحدود الأخيرة” بجائزة ج. أنتوني لوكاس للكتاب لعام 2021 لأفضل كتابة أمريكيّة غير روائيّة من كلية الصحافة في كولومبيا ومؤسسة نيمان للصّحافة في جامعة هارفارد. كما فازت بجائزة كريستوفر، التي تكرّم الأعمال التي تحتفي “بالقوّة لمواجهة الصّعاب بالأمل والشجاعة والتّصميم والإيمان”، وكان كتابها من بين اختيارات محرّر صحيفة نيويورك تايمز. وفي مراجعةٍ كتبتها”ميمي شوارتز” لصحيفة نيويورك تايمز وصفت الكتاب بأنه “رائع بكل بساطة، سواء على المستوى الدّقيق للسرد القصصيّ أو في مستوى التّعاطف الهائل”.

وتشير المراجعة إلى أن الهجرة جزءٌ من الأساطير الأميركية. “هذه القصص هي المواد الأساسية في الصحف وفيتشرات التلفزيون لدرجة أن روايتها بطرقٍ جديدة تبدو مستحيلةً تقريبًا.”

تقول “غوداو” إن سرد هذه القصص بطرقٍ جديدة هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة، وهذا يتطلّب المزيد من الأدوات الصحفيّة المتنوّعة، وأوّل هذه الأدوات هو التّعاطف. تعمل “غوداو” مع جميع مصادرها بطريقةٍ تعاونية. كان عملها الصحفيّ وكتابتها عن “حسناء” و”أمينة” عملاً دافئًا، حيث كانت النسوة الثلاثاء يجتمعن في منازل بعضهن البعض لتناول الغداء كلّ أسبوعين لمدّة عامين تقريبًا.

كتبت “غوداو عن النازحين لمنشورات مثل “Teen Vogue” و”Catapult” و” Los Angeles Times” و”The Washington Post“. كما أنها تنتج أفلامًا وثائقية.

وتقول إن نهجها المتعاطف في الصحافة استفاد إلى حدٍّ ما من تجربتها الخاصّة كأجنبية في بلدان أخرى. عاشت في تايلاند لمدة صيفين أثناء دراستها الجامعية، وعاشت لاحقًا في البرازيل وتشيلي، وسافرت كثيرًا في جميع أنحاء أمريكا الجنوبية، وعاشت لفترات في الأرجنتين والمكسيك والبيرو وغيرها.

قالت: “عشتُ تجربةَ أن أُعامَل كطفلة” بسبب افتقارها للمهارات اللغوية، “وعشت الإحباط النّاتج عن إدراكي أن دماغي يتحرّك بسرعة أكبر مما يقدر عليه فمي”.

تحدثتُ مع “غوداو” عن أسلوبها الصحفي وعن الأمور المهمة عندما يُجري الصحفيون مقابلات مع الأشخاص المستضعفين. في لحظةٍ ما منَ الحوار وصفت أبطال قصصها بأنهم “لاجئون” فقالت إن المصطلح الأفضل هو مصطلح لا يختزل شخصًا أو مجموعةً بأكملها في حالة واحدة. اللغة الحذرة هي إحدى الطرق التي تحترم الإنسانية المعقَّدة لطالبي اللجوء.

تمّ تحرير محادثتنا لمراعاة الطّول والوضوح.

مادلين بودين: كيف تعثرين على الأشخاص الذين تكتبين عنهم؟

جيسيكا غوداو: لقد سلكت طريقًا غير تقليدي للصّحافة. عندما كنت أدرس الدكتوراه في جامعة تكساس، بدأتُ العملَ في مجال المناصرة مع لاجئين سابقين وأدى بي ذلك في نهاية المطاف إلى الكتابة. بالنّسبة لي، مسألةُ العثور على أشخاص مهتمين بأن أروي قصصهم غالبًا ما كانت تتمّ من خلال الصّداقات. قد أتّصل بصديقٍ مقرّب، فيوصلني إلى أشخاص آخرين.

كنّا أنا و”مو ناو” صديقاتٍ لأكثر من عقد من الزمان قبل أن نبدأ عملية الكتابة معًا. للعثور على حسناء، أجريت مقابلات مع عدّة أشخاص. كنت أعرف أنني أريد أن أروي قصّةٍ شخص من سوريا، لكنني لم أكن أعرف كيف سأعثر على هذا الشّخص. عرفتُ حالما التقيت بها أنّها ستكون ذلك الشّخص. لم تكن قصتها مُلفتةً فحسب، ولكنها من النوع الذي يمكنني فهمه على المستوى العميق اللازم للقيام بمثل هذا العمل.

مادلين بودين: كيف تبنين هذه الثّقة؟

جيسيكا غوداو: إذا كنت صديقةَ النّاس منذ عشر سنوات أو خمس عشرة سنة، انتظري أن يحظر رئيسٌ هذه الفئة من النّاس، هذه طريقة رائعة. لا أظنّ أن هنالك طريقة سريعة للقيام بذلك.

دراسة الأدب أطلعتني بعمق على التّمثيل وعلى الطّرق التي تسبّب فيها البيض بالضّرر عندما رووا قصص الآخرين. كان ذلك تدريبًا ممتازًا على احترام قصص الناس التي  أرويها الآن.

حاولتُ أن أتّبع الجوانب الأكثر احترافيّة للصّحافة، ولكن طبيعتي ما زالت تنحو نحو التّحلّي بالتّعاطف والود. هذا ما اكتسبته من عملي في مجال المناصرة. أُعطي النّاس السيطرة الكاملة على السّرد قدر الإمكان. وإذا كان لديهم شيءٌ لا يريدون قوله، فيمكنهم أن يستأمنوني عليه.

فاز كتاب غوداو “بعد الحدود الأخيرة” بجائزة ج. أنتوني لوكاس لعام 2021 للكتابة غير الرّوائيّة.

مادلين بودين: كيف تتفاوضين على التفاصيل التي ستعرّفين بها الشّخص، مثل استخدام اسم مستعار، في حال كان من الممكن للقصّة أن تعرّض حياة صاحبها أو حياة الآخرين للخطر؟

جيسيكا غوداو: مناقشة الأسماء المستعارة هي في الواقع واحدة من أكثر الحوارات المحرجة التي تدور أثناء المقابلات القصيرة. مع “حسناء” و”مو ناو”، كانت تلك مقابلات طويلة الأمد، وكنا قد بنينا الثقة بيننا بحلول الوقت الذي اتّخذنا فيه قرارات حول أسمائهن وتفاصيل التّعريف.

بالنّسبة لقصة “حسناء”، رَوَينا في المسودّة الأولى كل التفاصيل، كتبنا الأسماء الحقيقية، كلّ شيء – مجرد تدوين للقصة. ثم راجعناها أنا ومحرّري واتّخذنا بعض القرارات حول القصص التي من شأنها أن تكشف هوية “حسناء”. كانت هنالك قصص مذهلة، لكن أيّ شخص له صلات في سوريا سيعرف العائلة. كان علينا أن نحذف هذه القصص. 

أكبر مخاوفي هي أن تعرّضَ كتاباتي شخصًا معرَضًا للخطر أصلاً  لخطرٍ أكبر، لكنني أريد أيضًا أن أحترم الأشخاص الذين أروي قصصهم. أعمل معهم وأحرص على أن يدركوا المخاطرة، حتى يتمكّنوا من اتّخاذ قراراتٍ جيّدة.

مادلين بودين: ماذا عن التّفاوض مع المحرّرين حول حماية هويات مصادرك؟ من تجربتي، المحررون لا يحبون المصادر المجهولة.

جيسيكا غوداو: لقد اقترحنا الكتاب على دار النّشر تحت اسم مستعار. محرّرتي في دار “فايكنغ” فهمت المخاطر على الفور. حتى أنّها أشارت إلى بعض الأشياء التي فاتتني.

مع المجلات والصحف، في بداياتي في الكتابة عرضتُ بعض المقالات وقُبلتْ ثم رفض المحررون تغيير الأسماء، ولهذا كنت أسحب المقالات. لكن هذا لم يعُدْ يحدث كثيرًا مؤخرًا. بعد أن نشرت كتابًا وبعد أن بنيت هذه المسيرة المهنية في الكتابة، بات المحرّرون الذين أعملُ معهم مدركين لطبيعة علاقتي بالمصادر. أفضل المحررين هم الذين يقولون: “بالتأكيد، ماذا علينا أن نفعل؟” وأنا أقدّر هذا السلوك لأن لا نكتب قصصًا خيالية. فالأمر يتعلّق بحماية النّاس الذين لولا ذلك لما رُويَت قصصهم خوفًا من الخطورة.

مادلين بودين: ما الذي تتمنين أن يعرفه الصّحفيون عن الكتابة عن اللاجئين أو النازحين؟

جيسيكا غوداو: هناك الكثير من الاستعارات التي يستخدمها الصّحفيون للنّازحين. نريدهم أن يكونوا ممتنّين ونريدهم أن يكونوا محتاجين. نريد منهم أن يكونوا قد مرّوا برحلةٍ مذهلة أوصلتهم إلى حافّة الموت. هذا ما يزيد من تعاطف الجمهور الأمريكيّ أو الأوروبيّ، ولكن نادرا ما تغطّي تلك الاستعاراتُ المحدودةُ القصّةَ الكاملةَ لهؤلاء الناس المركّبين.

أعتقد أن تمركُزَ القصّة حول الأشخاص وهم يختبرون حياتهم ينتجُ قصصًا أفضل ويعطي الأشخاص بعض السّيطرة على القصّة التي يريدون أن يسمَعها الناس في مواقع السُّلطة. هذا مختلفٌ عن الأدب: التّفاصيل المحدّدة شاملةٌ أكثر من العموميّات. والأشخاص الذين شُرِّدوا أو مرّوا بظروف مأساويّة لا يُختَزلون في تلك التّجربة. إذا ظهرت شخصيتهم، فإن هذا يُكرّم قصّتهم ويعطينا كتابةً أفضل.

يجب أن نتناقش حول كيفيّة مساعدة الصحفيين على التعامل مع جوانب الصحة النّفسيّة لمقابلة الأشخاص الذين تعرّضّوا للصدمات النّفسيّة. يجب أن يكون هناك دعامات تمكّن الصّحفيين  من التّعاطف لطرح أسئلةٍ جيّدة وعدم إحداث ضررٍ في المقابلة. لقد عانيت حقًا مع هذا  الأمر خلال كتابة “بعد الحدود الأخيرة”. لحسن الحظ، كانت محررتي ووكيلي مذهلين وساعداني على اتّخاذ قرارات جيّدة. إذا فقدت قدرتي على التّعاطف، فقد فقدتُ شيئًا مهمًا في عمليّة الكتابة.

مادلين بودين: هل لديك أي نصيحة للصحفيين حول كيفيّة إجراء مقابلات مع الأشخاص الذين تعرّضوا لصدمات نفسيّة؟

جيسيكا غوداو: على الرغم من وجود قائمةٍ من الأسئلة في رأسي أو في دفتر ملاحظاتي، إلا أنّه يتعيّن عليّ في بعض الأحيان أن تدع الناس يروون قصتهم. هناك مثَلٌ عن المذكرات يقول: “اكتبْ منْ وحي ندوبك، وليس منْ وحي جراحك”. عندما تكون الجروح جديدة، أحاول ألا أضغط عليهم، وهذا يعني أحيانًا أنني لا أحصل على أفضل المقابلات.

أسألهم عادةً: ماذا تريد أن تقول لي؟ أو: إذا سنحت لك فرصة للتحدُّث مع النّاس في الولايات المتحدة، فماذا تريد أن يعرفوا عنك وعن وضعك؟ غالبًا ما يكون هذا مدخلًا ممتازًا لأنني أستطيع سماع الإجابة على سؤال “لماذا” الكامن وراء مقابلتهم. أرى أنّه بالسّماح لهم بالبدء وقيادة القصة، يمكنني أن أطرح أسئلة متابعة ويمكننا في نهاية المطاف تطوير هذا السّرد كله معًا.

إذا قالوا أنهم لا يريدون التحدُّث عن شيءٍ ما، لا أضغط عليهم. قد تفوتني تفاصيل قد تكون مذهلة ومثيرة للقصّة، ولكني أجري المقابلة بطريقةٍ أتمنى ألا تُشعرهم فيها أسئلتي بالإساءة أو الألم. 

مادلين بودين: عندما يكون لديك مقابلة شحيحة التّفاصيل، هل تحاولين التّعويض عن ذلك بالكتابة؟

جيسيكا غوداو: أسلوب المقابلة للأشخاص في مناصب النفوذ – حيث يسعدني أن أضغط عليهم – أسلوبٌ مختلفٌ تمامًا عمّا أقوم به عند مقابلة أشخاص لا تُروى قصصهم في العادة، حيث أميل إلى دعوتهم للكلام. ما هي القصّة التي تريد أن تحكيها؟ ما هي التّفاصيل التي ترغب في تضمينها؟ إنها لهجة ألطف بكثير وطريقة أكثر انفتاحًا لطرح الأسئلة.

لا ينجح الأمر دائمًا. لدي الكثير من المقابلات التي لم تُنشر. لكنني لم أصادف تقريبًا نازحين أو طالبي لجوء أو أشخاصًا غير موثّقين، ولا يريدون أن تُروى قصتهم طالما يمكنهم القيام بذلك بطريقةٍ لا تُعرّض وجودهم هنا للخطر. إنهم يريدون حقًا أن يعرف النّاس.

بالنسبة لي، هذه مقابلات سهلة دائمًا. إذ أحصل دائمًا على عشرة أضعاف المادّة التي يمكنني استخدامها في أي قصة. لهذا السبب أحبّ الكتب، لأن عدد الكلمات فيها أكبر.

مادلين بودين: كيف تعتنين بصحّتك النفسيّة لتكوني قادرةً على المضيّ  في التعاطف مع الآخرين؟

جيسيكا غوداو: أريد أن أبدأ بالتّنبيه إلى أن صحّتي النّفسيّة ليست بنفس أهميّة قصص الناس التي أرويها.

تفاجأت بأن إجراء هذه المقابلات أشعرني بالحرّيّة. لم أتوقّع ذلك. أشعرُ بالرّضا والفرح عندما أدركُ أنني قادرةٌ على فعل شيءٍ حيال ما يجري في العالم. يمكنني أن أكتب. يمكنني أن أجري المقابلات. هنالك شعورٌ بالجدوى في هذا العمل، وهو ما يساعدني على المضيّ قدمًا.

العلاج النّفسي مذهل. لديّ معالجٌ جيّدٌ منذ فترة طويلة. ولديّ شريك يقدّر عملي ويدعمه. لدي أصدقاء رائعون يقنعونني ويساعدونني على أن أدرك بأن عليّ أن أعطي مساحةً لهذا العمل، وأنه لا يمكنني أن أواجه كل شيء بالقوّة.

“كارولين فورشي” شاعرةٌ وصحفيّة ألّفت كتابًا بعنوان “ملاك التّاريخ”. وجدتُ أن للشّعراء طريقةً تجعلهم قادرين على أن يكونوا منفتحين على العالم دون أن يكسرهم، وهذا يعكس النهج الذي أحاول أن أتّبعه.

أقرأ الكثير من الكتب السّخيفة. أشاهد الكثير من الأفلام السخيفة. أحيانًا يجب أن أجلس وأدع الأمر تجري على هواها، و يجب أن أحزن أيضًا, أشعر وكأنني ما زلت مبتدئة. إنّه عملٌ يمتدّ طول العمر. 

مادلين بودين: هل هنالك أيّ شيءٍ آخر تعتقدين أنه يجب على الصّحفيين معرفته عن العمل مع النّازحين؟

جيسيكا غوداو: سيكون هذا قرن النّزوح. هذا العمل مهمٌّ جدًا في جميع أنحاء العالم، ولكن نادرًا ما تُعطى الأولويّة لأصوات النّازحين. وهذا يوقع ضررًا حقيقيًا لأن النازحين هم الخبراء. الصّحفيون والمحرّرون الذين يعطون الأولية لتلك الأصوات ويحرصون على أن تُروى القصص الحقيقية هم من يتقدّمون بطريقة أفضل  في هذا النّوع من الكتابة.

نشرت هذه المقابلة  في الأصل على Nieman Storyboard  وأعيد نشرها هنا بإذن.


Madeline Bodin headshot imageمادلين بودين صحفيّةمخضرمة مختصّة في الحياة البرية والعلوم والصحافة البيئية، نُشرت أعمالها فيBoston Globe، Christian Science Monitor،Scientific American، Popular Mechanics. وهي عضو في الرابطة الوطنية لكتّاب العلوم وجمعية الصّحفيين البيئيين.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *