كانت الصّحافة الاستقصائية في العراق صعبة، أمّا الآن فتكادُ تكون مستحيلة

Print More

الصورة : Shutterstock

لم تكن كتابة تحقيق استقصائيّ في العراق أمراً هينًا على الإطلاق، ولكن لسنوات عديدة كان الأمر ممكنًا على الأقل.

خلال السنوات التي تلَت سقوط نظام صدّام حسين سنة 2003، شهدت الصّحافة بشكل عام حرّيةً أكبر بكثير مما كانت عليه في العقود السابقة، وعلى مدى سنوات، فاز الصّحفيون العراقيّون بجوائز عربية ودوليّة مهمة، بما في ذلك العديد من جوائز الصّحافة الاستقصائيّة.

لكن الظّروف تغيّرت بعد الانتخابات البرلمانيّة العراقية عام 2018 عندما وصلت إلى السّلطة حكومةُ “عادل عبد المهدي”، بدعمٍ من أحزاب كانت هي نفسها مدعومة من قِبل الميليشيات. ومنذ ذلك الحين أصبحت الأمور أكثر صعوبة.

الفصائل المسلّحة والسياسيون الشّيعة والسنّة والأكراد ذوو النفوذ، الذين يعارضون الصحفيين الذين يغطون قضايا متعلقة بمصالحهم باتت تشكّل عائقًا. وكذلك العشائر التي تدعم السياسيين الفاسدين. ثم هنالك من يرفعون دعاوى على الصحفيين بتهمة التّشهير.

يقول الصّحفي “سامان نوح”، مدير شبكة المراسلين العراقيين للصّحافة الاستقصائيّة (NIRIJ) “لم يعد بإمكاننا كتابة تقارير استقصائيّة كما كنا نكتب من قبل. كنّا نكتب في السّابق عن الميليشيات والجماعات المسلّحة الخارجة عن الدّولة، لكن الميليشيات أصبحت الآن جزءاً من الدّولة بطريقة أو بأخرى”.

ويقول إن الصحفيين يخشون الآن “الاستهداف المباشر”، وإن التحقيقات عن الفساد أو القتل تعرّض حياة الصحفيين للخطر.

وكإجراء احترازي، يقول “نوح” إن منظمته تستعين بحوالي ستة صحفيين للعمل على كلّ قصة. وغالبًا ما يستخدم المراسلون أسماء مستعارة، خاصّة إذا كانوا مقيمين في العراق. بدأوا في استخدام هذا الإجراء الوقائي قبل نحو عامين، ولكن ما يزال هنالك نزوح للصحفيين الاستقصائيين.

ويشرح قائلاً: “خمسةٌ من الصّحفيين الذين كتبوا قصصًا استقصائية لـ “نيريج” يقيمون اليوم خارج العراق، وأتوقع أن يغادر المزيد من الصحفيين هذا العام. النتيجة؟ العراق ينزف صحفييه الاستقصائيين”.

من الديكتاتورية إلى العصر الذهبي

بطبيعة الحال، عانى العراق لسنواتٍ عديدة في ظلّ نظام استبدادي لدرجة أن الصّحافة الاستقصائيّة كانت أمرًا لا يخطر بالبال. وقد ضمنتْ هيمنةُ وسلطة حزب البعث، الذي حكم العراق من عام 1968 حتى عام 2003، استحالةَ وجود وسائل إعلام مهنيّة حرّة: كانت مهمّة الصحافةِ تمجيدَ السُّلطة وتمثيل إرادة الحزب وأجندته. وكانت كل الأعمال الاستقصائيّة خلال فترة حكم البعثيين كانت تجري في الخارج، بعيدًا عن قبضة الحزب.

وضخّت مجموعةٌ من وسائل الإعلام الداعمة محتوى مواليًا للحكومة، بما في ذلك قناة أطلقها الابن الأكبر للرئيس، عدي صدام حسين، الذي فرض نفسه فيما بعد كرئيس لنقابة الصحفيين العراقيين وأنشأ صحيفته الأسبوعيّة الخاصّة.

لم يكن مسموحًا للعراقيين امتلاك جهاز ستالايت (ديش)  لمتابعة القنوات العربيّة أو غيرها من القنوات الدّولية؛ لسنوات عديدة، وكان العثور على ستالايت في بيت أحدهم يؤّدي به إلى السّجن أو التعذيب.

ولكن سقوط صدام حسين عام 2003 أحدثَ تغييرات هائلة في جميع جوانب الحياة في العراق. وفي عصر الذي عُرف لاحقًا بالعصر الذهبيّ للصحافة في البلاد، تمّ إطلاق مئات الصحف المستقلة، وحوالي 100 محطة إذاعيّة، وعشرات القنوات الفضائيّة. التمويل العالمي لإطلاق هذه المنظمات الإعلاميّة وتدريب الصحفيين داخل العراق وخارجه، خلقتْ بيئةً خصبة لنموّ مشهد إعلاميّ مستقلّ وموضوعي.

كان المجتمع العراقي عامةً والصحفيون خاصّةً متعطشًا لحريّة التعبير وحرية النشر والبث.

ومع تدفّق الأموال، تمّ تدريب أجيال جديدة من الصّحفيين الشباب؛ قُدِّمتْ منحٌ لوسائل الإعلام العراقية، مكّنت الصّحف ومحطّات الإذاعة ووكالات الأنباء بالإبلاغ عمّا يجري في الميدان.

وقد تعزّزت الصّحافة الاستقصائيّة بدعمٍ من منظمة “إعلاميون من أجل صحافة عربيّة استقصائية”، وهي منظّمة غير ربحية مقرها في عمان – الأردن، جاءت إلى العراق سنة 2010.

أمضيتُ سنواتٍ عديدة في الاستقصاء عن الجماعات المسلّحة في العراق، وقضايا الفساد، وإساءة استخدام السُّلطة. كما استجوبت مؤسسات الدّولة، وساعد عملي في تغيير أجزاء من القانون في أحد المجالات التي استقصيت عنها.

وقد ملأني ذلك بالأمل في أن الصحافة الاستقصائية في العراق لا يحدّها حدّ وأنّه يمكن للصحفيين أن يؤثروا فعلاً. ولكن الواقع اليوم مخيّبٌ للآمال.

الاستقصاء في العراق

لطالما كان العراق مكانًا خطيرًا للصحفيين. حّتى أنه كان يعتبر أخطر مكان في العالم للصّحفيين لسنوات عديدة.

أفادتْ لجنة حماية الصحفيين أن 190 صحفيًا قتلوا في العراق منذ عام 1992. وجاءت أسوأ السنوات بعد غزو القوات الأمريكية عام 2003، وخلال السنوات التي تلَتْ ذلك مباشرةً، عندما أدّى العنف الطّائفي والقتال بين الجماعات المسلّحة والقاعدة وبقايا حزب البعث إلى مقتل العديد من الصّحفيين أثناء عملهم.

تسجّلُ لجنةُ حماية الصّحفيين عدد الصحفيين الذين قتلوا (باللون الأحمر الدّاكن) أو سُجِنوا (برتقالي) أو فُقدوا (وردي) كلّ عام. ولتقديم فكرة عن حجم الموضوع، قُتِل عام 2007 اثنان وثلاثون صحفيًا، وسُجن اثنان، وفُقد اثنان. الصّورة: لقطة شاشة

استقرّ الوضع قليلاً خلال الفترة التي أعقبت الانسحاب الأمريكي الكبير للقوات المقاتلة عام 2011، لكنه أصبح صعبًا مرة أخرى بعد ظهور تنظيم الدّولة الإسلامية (داعش) عام 2014، واحتلاله لمناطق واسعة من العراق وسوريا.

على الرغم من أن الأرقام الأخيرة تُظهر انخفاضًا في حالات القتل (ستّة في عام 2016، وثمانية في عام 2017، وصفر في عام 2018، ثم اثنان في 2019 و2020)، إلا أنّ هذه الإحصاءات لا تروي القصّة الكاملة. وفي حين قُتِل عددٌ أقلّ من الصّحفيين في السنوات الأخيرة، ارتبطَ تأثير المال السّياسي وضعف وسائل الإعلام المستقلّة بمستويات عالية من الإفلات من العقاب وببانوراما التّهديدات المستمرّة للصحفيين. كل هذا كان له تأثيرٌ مخيف.

تضع “مراسلون بلا حدود” العراق في المرتبة 163 في تصنيف حرية الصحافة، بالقرب من سوريا (173) واليمن (169) – من أصل 180 دولة. والأمر الأكثر إحباطا هو أن العراق يتراجع في التّصنيف كل عام: ففي عام 2013، كان في المرتبة 150. 

قالت فريدوم هاوس في تقرير صدر عام 2020 إن “الصحفيين الذين لا يمارسون الرقابة الذاتية قد يواجهون تداعيات قانونيّة أو انتقامًا عنيفًا”،  مشيرةً إلى دور الميليشيات التي “قتلت الصحفيين واعتقلتهم واختطفتهم بسبب عملهم”.

إذا نظرنا إلى الوراء، فإن عام 2014، الذي شهد صعود داعش، كان لحظةً حاسمة. تركّز اهتمام وسائل الإعلام على احتلال هذه الجماعة لثلث الأراضي العراقيّة، مخلّفين وراءهم آلاف الضحايا واقتلعوا ملايين الأشخاص من ديارهم وشرّدوهم في أنحاء البلاد.

خلال المعركة ضد داعش، اتّحدت عدّة فصائل متحاربة في العراق ضدّ عدو واحد مشترك. ونتيجة لذلك، حظي أعضاء الميليشيات المناهضة لداعش بدعمٍ شعبيّ في انتخابات 2018، حيث سيطروا على أبرز المناصب الحكوميّة البرلمانيّة والوزاريّة. وصارت السّلطة مركزيّة مرّة أخرى، وأصبح الحديث عن الفساد الإداري والمالي – والدور المتنامي للميليشيات – خطيرًا مرة أخرى. والمجتمع العراقي، الذي كان يراهن على قدرة وسائل الإعلام على فضح الفساد، فقَدَ أهمّ شيء اكتسبه بعد عام 2003: حرّيّة التعبير.

لم يتمكّن الصّحفيّون المستقلّون من التنافس مع المال السياسيّ الذي كان يقدّم دعمًا أكبر لوسائل الإعلام “الدّاعمة”. وجد آخرون فرصةً للعمل والعيش خارج العراق، تاركين الساحة للمؤسّسات الإعلامية المموَّلة من الأطراف المتصارعة والجماعات المسلّحة والقادة السياسيين من الشمال إلى أقصى الجنوب.

سنة بعد أخرى، أصبحت الصّحافة الاستقصائيّة أكثر صعوبة. البحث في مواضيع معينة في العراق اليوم ضربٌ من الانتحار. وإذا ظلّ الصّحفيون الباقون وحيدين دون حماية فلن يكون هنالك نورٌ في نهاية هذا النفق المظلم.

الربيع العربي، وما جاء بعده

إذا قارنّا العراق بدول مثل مصر التي شهدتْ وصولَ الحرية هيئة الرّبيع العربي، يمكننا أن نرى أوجه تشابه ملحوظة.

بعد عقود من حكم حزبٍ واحد بقيادة الزعيم حسني مبارك لفترة طويلة، نالت مصر حرّيتها في ثورة 2011. لكن ذلك لم يَدُم. وفقًا لمنظمة “مراسلون بلا حدود”، تحتلّ مصر حاليا المرتبة 166 في قائمة تضم 180 دولة في التصنيف العالمي السنوي لحرّية الصّحافة. ووفقًا لمنظّمة العفو الدّولية، شهدت الصحافة في مصر “حملة قمع لا هوادة فيها” مع وجود ما لا يقل عن 37 صحفيًا في السجن، 20 منهم ارتبط سجنهم ارتباطًا مباشرًا بعملهم.

الصّحافة بشكلٍ عام، والصّحافة الاستقصائيّة على وجه الخصوص، عانت من نكسات هائلة. وينطبق الشيء نفسه على سوريا واليمن وليبيا والعراق. تونس وحدها هي التي تحافظ على التزامٍ مستقرٍّ نسبيًا بحرّية الصّحافة بين بلدان الربيع العربي.

في العراق، ما تزال الصورة معقدة. أدّت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عام 2019 إلى مقتل مئات المتظاهرين،في حين تعرّض العديد من الصحفيين الذين غطّوا الاحتجاجات  للاضطهاد والتّهديدات من الميليشيات الخارجة عن القانون وحملة قمع من قِبل الحكومة.

احتجاجات مناهضة للحكومة في العاصمة العراقية بغداد، عام 2019. الصورة : Shutterstock

وقد حدثت تغييرات في القمّة منذ ذلك الحين – منها استقالة رئيس الوزراء. كانت هناك آمال كبيرة في أن رئيس الوزراء الجديد،مصطفى الكاظمي” – وهو رجلٌ أمضى عقودًا في العمل كصحفيٍّ وناشط يوثّق انتهاكات حقوق الإنسان – قد يُحدث تغييرًا، لكن الأمور لم تتحسن حتى الآن.

على سبيل المثال لا الحصر، قام مسلّحون مجهولون في مارس/آذار 2020 باختطاف الصحفي “توفيق التّميمي” في العاصمة بغداد بينما كان في طريقه إلى العمل. وهو مفقود منذ ذلك الحين.

وبعد بضعة أشهر، في يوليو/تموز، اغتال مسلّحون مجهولون هشام الهاشمي،الباحث الخبير في الجماعات المسلّحة. وقد قُتِل عائدًا من مقابلة مع قناة تلفزيونية محليّة. وفي عام 2020 أيضا، قتل مسلّحون مجهولون المراسل أحمد عبد الصمد” والمصوّر “صفاء غالي”، بينما كانا يغطّيان المظاهرات في البصرة.

بعد الكشف عن قضايا فساد مختلفة في محافظة المثنى، تعرّض الصّحفي “حيدر الحمداني” للتهديد، ففرّ هو وعائلته من بلدته. في بدايات هذا الشهر، حاول مسلّحون اغتيال مراسل القناة الفضائية أحمد حسن، وأصابوه برصاصة في رأسه ؛ وهو الآن في العناية المركزة متمسّكًا بالحياة.

مايزال جميع مرتكبي هذه الجرائم طليقين، على الرغم من تعهُّد الحكومة بالقبض على المسؤولين عنها. الوضع مزرٍ للغاية لدرجة أن لجنة حماية الصحفيين تصنّف العراق في المرتبة الثالثة في مؤشرها العالمي للإفلات من العقاب، خلف الصومال وسوريا فقط. هذا التصنيف يسلّط الضوء على البلدان التي يُستهدف فيها الصحفيون ليُقتلوا ولا يُعاقب قَتَلتهم. أدرج التصنيف 21 جريمة قتل للصحفيين لم تُحلّ في العراق.

كما كتبتُ هذا المقال، اعتقلت قوات الأمن العراقيّة المحامي والمحلل السياسي “إبراهيم الصميدعي بسبب تصريحات له زُعم أنه أهان فيها السلطات العامة.

يفرض القانون العراقي بصيغته الحالية عقوبات صارمة: السّجن المؤبّد أو عقوبة الإعدام لمن يدان بإهانة الرّئيس أو البرلمان أو الحكومة، والسجن لمدّة سبع سنوات لمن يهين المحاكم أو القوّات المسلحة أو السّلطات العامة أو الوكالات الحكوميّة.

وعلى الرغم من أن معظم الذين قُتلوا أو تعرضوا للترهيب في العراق اليوم ليسوا صحفيين، إلا أن هذه الهجمات لا تزال تتطلب إجابات. ولكن في هذا العصر من الترهيب المجتمعي العام، أصبح من الصّعب، إن لم يكن من المستحيل، على الصحفيين الاستقصائيين العمل تحت هذه الضغوط. الإفلات من العقاب في الحالات المذكورة أعلاه له آثاره المثبّطة على الصحافة. وبات الصّمت السبيل الوحيد لكي لا يخسر المرء حياته.


كتبت الكاتبة هذه المقالة بدون اسم بسبب مخاوف أمنية. الكاتبُة صحفيٌّ مستقلة حائز على جوائز من العراق. عملت في الصحافة الاستقصائية  لأكثر من عقدٍ من الزمان.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *