لا يوجد ستارة لتُرفَع، فالمشاهدون جالسون فرادى في صالونات بيوتهم وغرف نومهم ومكاتبهم في لندن وشيكاغو وسيدني، مُنتظرين. بعد بضع ثوانٍ من الظّلام، تظهرُ أربعة مربّعات، ثلاثةٌ منها تحيط كإطارٍ بأفواه الرجال المسجونين بجانب بعضهم البعض في “وحدة الإسكان الانفرادي” منذ سنوات. يظهرُ في المربّع الرّابع القادمُ الجديد: “روكي”، وجهه طافحٌ بالخوف والارتباك، ويستجيب لسخرية الرّجال الآخرين بمزيجٍ من التبجّح والذّعر.
هكذا تبدأ مسرحيّة “The BOX” “الصّندوق” التي تتحدّث عن الحبس الانفراديّ في الولايات المتحدة، التي كتبتها “سارة شورد“، التي غالبًا ما تقع أعمالها على مفترق الطّرُقِ بين الصّحافة والفن وعملها كناشطة، وقد تصدّر اسمها عناوين الصحف العالميّة بعد أن أسرَتْها إيران بينما كانت تمارس رياضة المشي لمسافات طويلة قربَ الحدود.
كصحفيّةٍ وكاتبة، عملتْ “شورد” على سردِ قصص الحبس الانفراديّ طوال عشر سنوات، ونشرت قصصها في Daily Beast و Mother Jonesو The New York Times. يعتمد “الصندوق” على استقصاءات “شورد” العميقة عن الحبس الانفراديّ، تروي بشكلٍ قصصيّ حكاية اثني عشر شخصًا، كتبتْ عنهم وزارتهم على مدى عدّة سنوات.
تستلهم “شورد” أفكارها من مشاريع استقصائيّى مثل استقصاء “ماثيو ديزموند” عن أزمة الإسكان في ميلووكي، ويسكونسن، في كتابه“مطرود” واستقصاء “أخوات في الكراهيّة” لـ”سيوارد داربي”،والذي يحكي قصص ثلاثَ نساءٍ قوميّاتٍ بِيْض. كما تقدّر “شورد” مشاريعَ مثل “لا يُصدق”، وهو ما اقتبسته نتفليكس عن مشروع استقصائيّ أنجزتّه بروبوبليكا ومارشال سنة 2015 في قضيّة اغتصاب.
تضمّ مسرحيّة “الصّندوق” ممثّلين حوّلوا زوايا في منازلهم إلى مسارح مخصّصة، مضاءة بضوء الفلورسنت (النيون) البارد المستخدَم في السّجون. أمّا المسرحيّة فيتمّ بثّها عبر مكالمات الفيديو من منصّة زوم. إنّه عملٌ مسرحيّ آخذٌ في التطوُّر والتّكيُّف مع الأشكال والظّروف الجديدة – ولكن “شورد” لم تتوقّع أن تُبَثَّ المسرحيّة إلى الجماهير في جميع أنحاء العالم في الوقت الذي يعانون فيه هم أيضًا من العزلة التي تسبّب بها وباء كوفيد-19.
وقالت “إنّكم على تواصُل بالرّغم من أننا نعيش في خضمّ هذا الوباء العالميّ الذي عزلنا فعلًا بطريقةٍ لم نشهدها من قبل. وكلّما وصلنا إلى جمهورٍ أوسع، كلما كان تأثيرُ عملنا أكبر”.
تمزج “شورد” في المسرحيّة بين الحقيقة والخيال لإيصال حقيقةٍ حميمةٍ وعاطفيّة. وفي سعيها لاستكشاف طرقٍ غير تقليديّة لتقديم وإيصال التّقارير والبحوث المتعمّقة، لا تتطلّع “شورد” إلى الوصول إلى جمهورٍ أوسع فحسب، بل تسعى أيضًا لتقديم طرقٍ بديلة للتعرّف على واقع الحبس الانفرادي في الولايات المتّحدة والتفاعل معه. من خلال المسرح، ترى “شورد” طريقةً لتعميق التّعاطف الذي يصعبُ تحقيقُه في أسلوب رواية القصص الصحفيّة التّقليديّة.
تقول: “عليك أن تكون قادرًا على تخيُّل نفسكَ وأنت تعيش تجربة هذا الشّخص. لا يمكن أن يكونوا بالنسبة لك شيئًا بعيداً أو فكرياً”.
فكرةٌ وُلِدتْ في زنزانة سجنٍ إيرانيّ
بدأ البحث والعمل الذي تقوم عليه مسرحيّة “الصّندوق” عند “شورد” كوسيلةٍ للشّفاء. في عام 2009، ألقت القوّات الإيرانيّة القبض عليها مع صديقين لها في رحلة مشي لمسافاتٍ طويلة في شمال كردستان العراق. وتحوّلَ القبضُ عليهم إلى شأنٍ دبلوماسي رفيع المستوى، اتَّهمَ فيه المسؤولون الإيرانيّون “شورد” ورفاقها بالتّجسس، على الرغم من عدم وجود أدلّة. أمضتْ “شورد” كامل فترة سجنها التي امتدّت 410 أيام وهي معزولة.
أُطلق سراحها بعد التّفاوُض وعادت “شورد” إلى الولايات المتحدة، لكنّها وجدت أنّ عزلةَ تلك التجربةِ كانت باعثةً على إحساسٍ عميق بالعزلة. شعرت بالحاجة الماسّة لفهم ما حدث لها، وكيف نجتْ منه، والندوب التي لم تَزُل بعد أن قضتْ أكثر من عامٍ وحدها في زنزانة. لم يُدْركْ أيٌّ من معارفها ما مرّت به، ولم يكن لديها جماعةٌ يمكنها أن تشارك معهم ما حدث حتى يساعدوها في علاج صدمتها.
قالت: “كنت بحاجةٍ إلى تحويل ألمي إلى شيء أكبر مني. كنت بحاجة أيضًا إلى جماعة – أو حركة – لأنتمي إليها، حتى لا أنجز مهمّتي وحدي.”
انطلاقًا من رغبتها في تكوين جماعة حاضنة للنّاجين، وانطلاقًا من غضبها لشيوع ما عاشته في مراكز التوقيف والسّجون في جميع أنحاء البلاد، بدأتْ “شورد” في الكتابة من منزلها عن الحبس الانفراديّ.
من خلال مجموعاتٍ مثل Solitary Watch، بدأتْ تجدُ جماعةً وحركة، وما عرفتْهُ أثار دهشتها وغضبها. كلّ يوم، يعيش حوالي الـ 80,000 إلى 100,000 شخص في الحبس الانفراديّ في الولايات المتّحدة. ويمكن لمراكز التّوقيف والسّجون أن تبقي النّاس في عزلة لسنوات، مما يعرّضهم لممارسةٍ تعتبرها الأمم المتّحدة تعذيبًا. إذ لا يوجد محاكماتٌ ولا هيئاتُ محلّفين عندما يقرّرُ حارسٌ أو مأمور استخدامَ الحبس الانفراديّ كعقوبة.
قالت “شورد”: “الحبس الانفراديّ هو القاع العميق لنظام السّجن الجماعيّ ككلّ. إنّه لا يثبتُ فشل النّظام بأكمله فحسب، بل يثبت فشلَ مجتمعِنا كلّه، عندما يتعلّق الأمر بالأمراض النفسيّة، وكيفية التّعامل مع دوائر العنف والوقاية منها.”
بدأت “شورد” في التّواصل مع أشخاص محبوسين انفراديًا في جميع أنحاء الولايات المتّحدة. كتبت رسائل، تواصلت مع مجموعاتِ المُناصَرة، وزارت المؤسسات. كما شغلتْ منصب باحثة زائرة في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، لمدّة ثلاث سنوات، مما دعمَ استقصاءها المتعمّق حول استخدام العزلة كعقاب.
تواصلت “شورد” مع حوالي 75 شخصاً سُجنوا في مؤسسات عقابيّة في 15 ولاية، وزارت العديد منهم. التزم اثنا عشر منهم بتبادل الرّسائل العاديّة والمكالمات الهاتفيّة والزّيارات. ومع مضيّ “شورد” في عملها الاستقصائيّ، لم تكن تعرف ما ستكون عليه النّتيجة أو المنتج النهائيّ، لكنها أرادت أن تجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات.
“جان كاسيلا” من Solitary Watch، وهي مجموعة مراقبة، اقترحَ المسرح كشكلٍ للتّقديم فبدأت “شورد” بتحويل بحثها إلى مسرحيّة.
قال شورد عن قرار كتابةِ مسرحيةٍ عن الحبس الانفرادي: “إنه مسعىً مستحيل بعض الشيء. الحبسُ الانفراديّ يُعرَّف بغياب الحياة. والمسرح قائمٌ على الأحداث”.
لكن المسرح والفن لم يكونا أمرين جديدين على “شورد”، ورأت أن هنالك إمكانات هائلة كامنة في سرد قصة الحبس الانفراديّ من خلال هذه الوسيلة النّشِطة والقريبة.
“[مع المسرح] ستكون حرفيًا على مقربةٍ من جسد الشّخص الذي يمثّل حلقة وصلٍ بينك وبين هذه القصص. انخفضت المسافة الإدراكيّة بشكلٍ ملحوظ.”
طوال تحقيقها، تحدثت “شورد” عن الحبس الانفراديّ،وقالت إنها تقدّر تركيز الصّحافة الدؤوب على الحقائق، إلا أنّها شعرت أن أساليب رواية القصص الصحفيّة البحتة ستواجه صعوبةً في نقل الواقع الشعوريّ للحبس الانفراديّ. وهكذا أخذت تمزج بين الواقع والخيال وبدأت بكتابة “الصندوق”.
تستلهم “شورد” الأفكار من مبدعين مثل المصوّرة والمراسلة “مولي كرابل” والفنّانة “لوري جو رينولدز“ والكاتبة “كاثرين بو“. وقد جرّبت مشاريع مثل “غرافيك نيوز” في إيطاليا و”منقذ القلوب” من منصة “بروبوبليكا” أساليب إبداعيّة لرواية القصص الصحفيّة الصّرفة أيضًا. باستخدام أدوات مثل الروايات المصوّرة، والرّسوم، والألعاب التّفاعليّة، فإن هذه الاستراتيجيات تشبه ما تسعى إليه “شورد”، وهو ليس الوصول إلى جماهير جديدة فحسب، بل ورواية القصص من خلال مجموعة متنوّعة من الأشكال الإعلاميّة الديناميكيّة والمتفاعلة. تسمّي “شورد” هذا النمط من الأعمال: “مستوحاة من الصّحافة”.
وقالت “شورد”: “علينا أن نغوص تمامًا في أعماق الواقع، وبعد ذلك، لا يوجد ما يمنع أن نزاوج بين الواقع وبين أقوى أساليب رواية القصص الممكنة وأن نقدّمها إلى جماهير جديدة بطريقةٍ مختلفة.”
وبينما كانت “شورد” تعمل على التّحقيق، بدأ إضرابٌ عن الطّعام في سجن الولاية في بيليكان باي في شمال كاليفورنيا. وانتشر الإضراب بين الآلاف من المسجونين في جميع أنحاء الولاية، ورفضوا الطّعام لأسابيع في كلّ مرة. كان هنالك مجموعةٌ صغيرة أضربت عن الطّعام لمدّة شهرين تقريباً.
تواصلت شورد مع العديد من الأشخاص المعنيين، وبعض المنظِّمين الذين أشعلوا فتيل الإضراب في سجن “بيليكان باي”، وأدركوا أن الأحداث يمكن أن توفّر محورًا سرديًا للقصة الكاسحة التي أرادت أن ترويها عن الحبس الانفراديّ.
من المسرح إلى صالون بيتك
استضاف مسرح Z Space في سان فرانسيسكو، الذي يدعم الفنانين النّاشئين عادةً، أوّل عرض لـ “THE BOX” في عام 2016. ضمّ فريق العمل تسعة أشخاص وكانت المسرحية من فصلين، وكانت حافلةً بتصميم الصّوت الثّقيل الذي هَدَفَ إلى إبراز الصّدمة النفسيّة التي يسبّبها الحبس الانفراديّ.
بعد انتهاء عرض المسرحيّة، أدركت “شورد” أنها ستضطر إلى تقليص المسرحية إذا أرادت إيصالها إلى جمهور أوسع، لذلك بدأت بالعمل على نوعٍ مختلف جداً من الإنتاج، وخفّضت طاقم العمل إلى خمسة أشخاص، وأعادت ترتيب المسرحيّة بحيث تكون أقدر على الحركة والتّأقلم.
في عام 2019، أخذت المسرحيّة المنقَّحة إلى جزيرة ألكاتراز، موقع السّجن الانفراديّ السّابق، حيث كان عليها أن تعمل في سياقٍ مختلف تمامًا. وجهّزت المسرحيّة لتكون مُوجَّهة لأشخاصٍ عانوا من الحبس الانفرادي وأسرهم، وقدّمتْ نسخةً من المسرحيّة أكثر هدوءًا وأكثر حميميّة لجمهورٍ أصغر بكثير كان يشارك عادةً في مناقشةٍ بعد العرض.
لم تخطط “شورد” أبدًا لإنتاج المسرحية لجمهورٍ بعيدٍ عبر زووم، وعندما اقترحتْ “ناتالي أبلوايت”، المديرة الإداريّة لمركز بوليتزر الذي بدأ في تمويل عمل “شورد” خلال العرض في ألكاتراز، أن تعيد صياغة المسرحيّة لأول مرة، رفضت “شورد” الاقتراح.
“ردّة فعلي الأولى على فكرة تقديم المسرحيّة عبر زووم كانت “لا” نابعةً من الأعماق. بدا لي الأمر مُصطَنَعًا”.
وأعربت عن قلقها من أن الإحساس الجماعيّ بأننا شاهدون على الحدث، الذي كانوا يعيشونه في الفضاء المشترك للمسرح سوف يختفي في الشّكل الرّقميّ. فقيمةُ المسرح بالنسبة لها تكمنُ في الحضور وفي اللحظة المشتركة من الزّمان والمكان. خلق تلك التّجربة على زووم لم يبدُ صعبُا فقط، بل ضارّاً.
لكن ظلّت “شورد” تفكّر في الأمر وبدأت تراه على أنّه فرصة. حتّى أن التجربة المشتركة الناجمة عن جائحةٍ أجبرتْ الكثيرين منّا على قضاء وقتٍ أكثر بكثير داخل بيوتنا ووحدنا أكثر من أي وقت مضى، بدأت تبدو – في حدّ ذاتها – وكأنّها طريقةٌ للوصول إلى إحساس الجماعي بأننا شهود، وهو ما جذب “شورد” إلى المسرح من البداية.
وقالت إنها بدأتْ تفكّر في كيفية استخدام شاشة الزووم لتقديم منظور المسرحية وتضفي عمقًا على الأداء. تخيّلت الشاشة على أنها الفتحة في باب الزنزانة التي يتواصلُ المحبوسون انفراديًا من خلالها: نافذة لهم تطلّ على الخارج، ونافذة قريبة وحميمة للجمهور. نقترب من غمّازات الممثّل، تجاعيده، وبصقاته أثناء تقديم المسرحية. لا نرى أجسادهم الكاملة أبدًا، مجرّد أجزاء منهم ومن الزنازين.
عُرضت المسرحيّة على زووم ثلاث مرات، مع محادثةٍ مع “شورد” وأحد الممثلين، “داميون براون”، بعد العرض الأخير. يلعب “براون” في المسرحيّة دور “راي” وهو عضو في “الفهود السّود”، وهي منظمة سياسيّة تدعم قوّة السّود نشطتْ خلال وبعد حركة الحقوق المدنيّة الأمريكيّة، وعوقب “راي” بالحبس الانفراديّ لتسع عشرة عامًا.
“براون” الذي عوقب هو نفسه بالسّجن الانفرادي عندما سُجن في شبابه، اتّجه إلى المسرح بعد إطلاق سراحه، وشارك في مسرحيات مع مجموعة “مارين شكسبير” المسرحيّة وغيرها.
النجم المشارك “تيرانس سميث” يلعب دور “روكي” وجد وقعًا عميقًا للأداء في هذه المسرحيّة عبر زووم بينما كان الوباء يدفع الكثير منّا إلى عزلةٍ غير مألوفة. حوّل “سميث” ركنًا في منزل والديه ليشبه الزنزانة.
قال “سميث”: “[هناك] وقعٌ مشترك مع… الناس الذين يجلس كلٌّ منهم في صندوقه الخاصّ، عاجزين عن التّواصل الإنسانيّ، وتوّاقين له”.
في الوقت الراهن، لا تعتقد “شورد” أنه سيكون هنالك المزيد من العروض الرقميّة لـ “الصندوق”، فهي تخطّط لعرضٍ متنقّل تحت عنوان “جولة نهايةِ العزلة”، والتي تأمل أن تتمّ بمجرد توفُّر لقاح لكوفيد-19. وستكون هذه العروض درسًا آخر في كيفية إيجاد التّواصل وسط مجموعةٍ جديدة من القيود.
“بغضّ النظر عما تفعله بالنّاس، ومهما حاولت قطعهم عن أي شيء وعن أي نوع من التّواصل، وعن أيّ نوع من العمل الهادف أو الوجود في العالم، سيجد النّاس طريقةً ما. لدى البشر رغبةٌ لا تصدَّق في التّواصل مع بعضهم البعض.”
نينا سبارلينغ صحفيّة ومنتجة صوت مقيمة في سان فرانسيسكو. تعمل على مواضيع التّمييز وغيرها. نُشرتْ كتاباتها من قبل مجلة باريس ريفيو ونيويورك تايمز وفوغ، وبُثَّ عملها الصوتيّ على NPRو Capital Public Radio في الولايات المّتحدة.