تهيمن القصص الإخبارية عن جائحة كورونا على المشهد الإعلاميّ هذه الأيام، إلا أننا بدأنا نرى بعض القصص الإنسانيّة والزوايا الاستقصائية التي يمكن أن تتحوّل إلى مواد فيديو طويلة وأفلامٍ وثائقيّة جميلةٍ ومُقنعة.
أجبرت الجائحة صانعي الأفلام على التّأقلم مع ظروف عمل جديدة، كأنْ يستخدموا الميكروفون المعلّق (البوم) بدلًا من استخدام ميكروفون الياقة، وأن يقوموا بدور المنتجين عن بُعد، وأن يجدوا متعاونين جُدد.
وبالرغم من التحدّيات المتمثلة في القيود على السفر، والمخاطر الصحية، والانتشار الواسع للتغطية الإخبارية، إلّا أن صناعة الأفلام الاستقصائية مستمرّة بخطى سريعة، وهنالك الكثير من الفرص ليتقدّم الصحفيون بقصصهم إلى الشبكات الإخبارية الكبرى.
أطلقت “الشبكة العالميّة للصحافة الاستقصائيّة” أداةً بسيطةً وآمنة للصحفيين ليقدّموا أفكارهم عبر الإنترنت لمحرري التكليف العالميين (من يكلّفون الصحفيين بإنتاج مواد لشبكاتهم) وليجدوا متعاونين ليعملوا معهم في المشاريع التلفزيونية ومواد الفيديو الطويلة. حيث يمكن للصحفيين ممّن لديهم أفكارٌ قيد التطوير، أن يستخدموا هذا النموذج ليشاركوا بصورةٍ سرّيّة أفكار مشاريعهم مع شبكات Swiss Public Television، وPremières Lignes في فرنسا، وشبكة BBC (قِسم القضايا الراهنة، BBC عربي، BBC افريقيا)، وشبكة PBS Frontline في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وشبكة CBC في كندا (للأعمال الاستقصائية باللغتين الفرنسية والإنجليزيّة).
تمّ إطلاق هذه الأداة التشاركية أثناء لقاء الأونلاين الثالث الذي عقدته “الشبكة العالميّة للصحافة الاستقصائيّة” في سلسلة لقاءاتها التي تحمل عنوان “استقصاء الجائحة“. تحدّث تسعةُ محرريّ تكليفٍ من كل أنحاء العالم عن الأفكار التي يبحثون عنها لتُقدّمَ لعملِ فيديو طويل عن الوباء، وقدّموا بعض النصائح للصحفيين ليتمكنوا من تحقيقها في ظلّ التحديات الجديدة. انضم قرابة 160 صحفي استقصائيّ وصانع أفلام من 48 دولة إلى النقاش.
ما الذي يريده المحررون؟
نبّه المحررون الصحفيين الذين يقدّمون أفكارًا للأفلام الوثائقية التلفزيونية إلى ضرورة أن تكون زواياهم جديدة ومُبتَكَرة وتحمل جانبًا قصصيًا، أي ألّا تكون مجرّد نسخٍ مطوّلةٍ من القصص العاديّة التي نراها في نشرات الأخبار.
هناك حلولٌ بديلة لإجراء المقابلات دون خرق قواعد التّباعد الاجتماعيّ، كالمقابلات عبر Skype أو Zoom المقبولة لدى العديد من شبكات البث، وهناك حلول للقيود على السفر كما فعلت شبكة BBC على سبيل المثال عندما قام المنتجون في لندن بإخراج ومونتاج محتوى مأخوذ من الشرق الأوسط. ولكن لا توجدٌ حلولٌ بديلة لإنقاذ القصص الضعيفة أو غير الجذّابة، أو القصص التي لا يمكن روايتها باستخدام عناصر بصريّة.
وبحسب جان فيليب سيبي المنتج التنفيذي للبرنامج الاستقصائي “Temps Présent” على قناة RTS التابعة لخدمة البث العامة السويسرية فإنّ “الموضوع يكمن في القيمة المضافة، وليس في القصص التي تخطر ببالنا جميعًا. هنالك رابطٌ دائمًا بين قيمة الفيلم وبين مدى صعوبة الحصول على المعلومات والمادة البصريّة التي تظهر فيه. نتوقّع إنتاجًا تلفزيونيًا من أرفع طراز. على سبيل المثال، ما هو وضع كوفيد 19 في بلدٍ يعيش حالة حرب؟”.
أهميّة التعاون
قال “سيبي” إن سوق التعاون التقليدي لأفكار الفيديو الطويل “إنهار” في شهر آذار، وإنّ هنالك حاجة عاجلة لتعاونات جديدة ومنتديات للتعامل مع المشاريع قريبة المدى والأخرى بعيدة المدى. وأضاف “يجب أن نتواصل مع بعضنا من جديد، ونتحلّق حول الأفكار الاستقصائية من خلال منتدياتٍ كهذا المنتدى”.
تنبأ لوك هيرمان، المدير التنفيذي لشركة إنتاج Premieres Lignes المستقلّة في فرنسا، “بأهمية التعاون خلال الأشهر والسنوات القادمة أهمّيّة حول موضوع السلوك الذي سلكته الشركات متعددة الجنسيات أثناء الجائحة، وخاصةً شركات الصناعات الدوائية الكبرى”.
وأضاف “إذا عملنا فرادى في بلداننا، فلن نتمكّن من إنتاج وثائقيات قويةٍ وطموحةٍ كتلك التي يمكن أن ننتجها معًا”.
فكّروا على المدى البعيد
أمّا إدوارد بيرين، الصحفي الاستقصائي لدى Premieres Lignes فقد قال” يتوجب على الصحفيين أثناء عملهم على مشاريعهم قصيرة المدى، أن يبقوا عيونهم مفتوحةً لكي لا تفوتهم الزوايا المقنعة بصريًا على المدى البعيد، كأنّ يتمّ إخضاع المواطنين لمراقبة شاملة مثلاً.
وتساءل بيرين “كيف يمكن لحقبة جديدةٍ من المراقبة أن تهدد مجتمعاتنا، بحيث تتابع تحرّكاتنا وتصرّفاتنا؟ كما أنني مهتمٌ في الجوانب الصينية من القصة…دور الرقابة هناك، السُّلطة الناعمة، البروباغندا”.
قالت سارة تشيلدريس، المحرّرة المسؤولة لبرنامج PBS Frontline، البرنامج الاستقصائي الرئيسي للتلفزيون العام في الولايات المتحدة “نحن دائمًا مستعدّون لاستقبال الأفكار والقصص مهما كانت درجة جاهزيتها. القصص التي نبحث عنها هي القصص الجديدة، القصص التي تكشف مستورًا، قصص عمّا يجري في الولايات المتحدّة، وفي العالم كذلك”.
وأضافت تشيلدريس أن جزءاً من فريقها ركّز على الجائحة كموضوع سيتداوله الجمهور لفترة طويلة، وجرّب الفريق استخدام أساليب جديدة لرواية القصّص. “طوال السنة القادمة كلها تقريبًا ستكون كل القصص عن كوفيد-19، عن أثره على الاقتصاد والخصوصية والسياسة. ونظرًا إلى أن إنتاج أغلب قصصنا يتطلب من ستة إلى تسعة أشهر، سيتوجب علينا أن نفكر إلى الأمام، وأن نأخذ خطوةً إلى الخلف”.
وبحسب ما لاحظته ماري ويلكينسون، رئيسة المحتوى التحريري في BBC Global News فإنّه ما يزال هناك مُتّسَع في شبكة BBC أمام مساهمات الصحفيين المستقلين (فريلانسرز) رغم أنّ للشبكة صحفيوها الذين ينتجون القصص من كلّ أنحاء العالم.
“المعيار أعلى. فالشيء الذي نبحث عنه هو الشيء الذي لا يمكننا الوصول إليه، وبالتالي فإن هذا هو ميدان نافخي الصافرة (كاشفي الفضائح)، والممثلين السيئين، والأشخاص المنتفعين، وشهادات الأشخاص المطّلعين على القضايا من الداخل، أو الأفلام التي تتمتع بالكشف الكامل لتفاصيل القصة، التي يتمكن فيها أحدهم من تجاوز التوقّعات سريعًا ومن وضع نفسه بالقرب من شخصٍ موجود في قلب الحدث”.
وأضافت “إننا نفكر كثيرًا على المدى البعيد…نفكّر في الجوانب التي ستشهد التأثيرات الأعنف بعد بضعة أشهر”.
مارك بيركنز هو المحرر الاستقصائي لدى BBC افريقيا ومحرر برنامج Africa Eye الذي ينتج 20 تحقيقًا استقصائيًا سنويًا، يبثها 13 شريكًا محليًا وBBC World News. ونظرًا لكونه برنامجًا مُعدًا للجماهير الإفريقية، فقد تزايد اهتمام شبكة صناع الأفلام المستقلّين المتعاونين مع البرنامج بالروابط بين افريقيا والعالم أثناء جائحة كورونا.
وفي معرض تناول القضايا ذات المدى الطويل في برنامج مثل Africa Eye فقد طرح بيركنز واحدًا من أصعب الأسئلة التي أدّت إليها الجائحة: كيف ستنجو افريقيا بعد شهور من الإغلاق؟
أساليب جديدة لرواية القصص
بحسب كريستوفر ميتشيل، محرر الوثائقيات لدى BBC عربي، فإن الجائحة جعلت شبكات البث الإقليمية تنفتح أمام قصص لم تكن ضمن مجال اهتمامها في العادة.
“عادةً ما نغطي قضايا الشرق الأوسط، ولكن مع كورونا يمكننا أن نأخذ الآن أي شيء يلتزم بمعاييرنا التحريريّة. صرنا أكثر انفتاحًا حيال المناطق الجغرافية التي نغطيها. هنالك تعطّشٌ لعرضِ ما يمرّ به الناس”.
“أمّا على المدى الطويل فسنهتمّ باستقصاءات أعمق عن فايروس كورونا وخاصة في العالم العربي، ولكن ليس هذا فحسب فنحن مهتمون أيضًا باستخدام الأزمة كوسيلة للتشويش على أنشطة أخرى”.تنتج BBC عربي أفلام من 30 أو 60 دقيقة ولا تعارض إنتاج الفيديوهات القصيرة.
آدام غريملي، محرر برنامج Our World الذي تبثه BBC، قال إن المحتوى الذي ينتجه المستخدمون أثبت نجاحه كأسلوب لرواية قصص الجائحة، وإنّه مهتمٌ بإيجاد أساليب مختلفة لرواية القصص. يقدم برنامج Our World أفلامًا من 23 دقيقة، تجمع بين القصص الاستقصائية والرصدية والتي يرويها المراسل.
وبحسب غريملي فإن إخراج الفيلم عن بعد أمرٌ أساسيّ لتغطية الجائحة، نظرًا للقيود المفروضة على السفر.
“يجب أن نكون أذكى في طريقة عملنا: حيثما كنّا موجودين، طريقتنا في تحرير البرامج، وطريقتنا في العمل مع المراسلين في الميدان، وكذلك طريقتنا في العمل مع المنتجين”.
أرسلوا أفكار مشاريعكم وخطوطها العريضة عبر منصة “الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية” التشاركية لدعم الاستقصاءات التلفزيونية طويلة المدى عن كوفيد-19.
روان فيليب صحفيٌّ حائزٌ على عدّة جوائز وعمل في أكثر من عشرين بلدًا. فيليب الذي يعيش حاليًا في بوستون، كان المراسل الرئيسي ومدير مكتب لندن لصحيفة Sunday Times الجنوب إفريقية طوال خمس عشرة سنة.